تميز الراحل خلال حياته بعشقه الكبير للغة الكردية، فألف العديد من الكتب المميزة بها بين الشعر والرواية والرأي، وكان حريصاً على ضرورة تمسّك الشعب الكردي بلغته، معتبراً أن اللغة الكردية هي هوية الشعب الكردي بشكل مباشر.

يتوجه موقع "رامينا نيوز" بأحر التعازي والمواساة إلى أسرة الراحل وأبنائه وأصدقائه وعموم محبيه على مصابهم الكبير، راجين من الله أن يتغمده بواسع رحمته وأن يلهم ذويه الصبر والسلوان.

بهذه المناسبة الأليمة، يعيد موقع "رامينا" نشر ملف يضم شهادات كتبها أصدقاء الراحل عنه وهم (بونيا جكر خوين، نارين عمر، إبراهيم اليوسف، إبراهيم محمود، صبري علي) في صحيفة "القلم الجديد" خلال 2020 احتفاء بمنجزه الأدبي الكبير عندما كان على قيد الحياة.


من هو محمد سيد حسين!

بونيا جكرخوين

لكل أمة كتاب ومشاهير دأبوا للكتابة والنشر بنطاق واسع لتحدي الاضطهاد والغبن الذي تلاقيه شعوبهم، كل بأسلوبه وبوسيلته التي يرغب ويجتهد فيها كي يحسن التعبير ويضع يده على الجرح والألم، وكاتبنا محمد سيد حسين الذي هو معروف للجميع في منطقتنا مدينة (قامشلو) ليس غريب عليه أن يكون من هؤلاء الذين اتخذوا الكتابة وسيلة لهم ليعبروا عما في داخلهم من مشاعر وأحاسيس.

عرفته في مدينتي الأم قامشلو، كان يزورنا بعض الأحيان ونتبادل الحديث، كما كنا نلتقي على حين غرة أكثر الأحيان لأننا كنا سكان نفس الحارة وكان هو من أصدقاء عائلتنا، أسعدتني صداقتنا به أنا وزوجي عثمان عثمان وخاصة عندما عرفت أنه من أقرباء العم ملا أحمد نامي، وهو من محبي والدي جكرخوين وعائلة جكرخوين.

إلتقيت به في عدة مناسبات، عرفته عن قرب، وخلال محادثاتنا استنتجت أنه إنسان خلوق هادئ ينتقي الكلمات الطيبة لحديثه ويتخذ الاسلوب المرن في نقاشاته، كنت أرتاح لحديثه وخاصة عندما كان يبدي إعجابه بكتاباتي وأشعاري، يشجعني على الكتابة باللغة الكردية ويعتبرها ميزة حسنة ويقول لي دوماً أنه يقرأ مقالاتي في المواقع الألكترونية. بدون جدل تشجيعه هذا كان يدخل البهجة إلى قلبي وأشعر عندها أنني في الطريق الصحيح. هو نفسة يكتب دوماً باللغة الكردية، قرأت له عدة مقالات في موقع ولاتي من ومواقع أخرى.

سافر كاتبنا الى خارج البلاد (تشيك)، وهو من قاطنيها حتى الآن، ونحن بدورنا سافرنا الى بلاد الغربة في مملكة السويد، هناك وبعد سنوات تواصلنا عبر الهاتف، مرة أخرى أبدى إعجابه بكتاباتي في بينوسا نو .ومن خلال المكالمات عرفت أنه مازال يواصل الكتابة. كاتبنا سيد حسين له كتب عديدة في القصة والرواية والشعر، منها "سحابة الموت و كوردستان قصيدتي".

ولد محمد سيد حسين سنة 1943 في قرية تل عربيد التابعة لقامشلو، والآن هو مغترب، لكنه لم ينقطع عن زيارة الوطن لتعلقه بمدينة الحب والعطاء قامشلو .

أتمنى لكاتبنا الصحة والسلامة دوماً ليواصل كتاباته التي تنبع عن حب الوطن ومقارعة الإضطهاد والظلم الذي يمارسه حكام بلادنا ضد شعبنا.. كما أتمنى له ولنا جميعاً العودة إلى أحضان الوطن ونحن ننعم بالحرية والديموقراطية في وطن حر سعيد.

كلمات وفاء إلى أديب

نارين عمر

ناضل الكاتب والشّاعر محمد سيّد حسين بقلمه وفكره في سبيل قضايا شعبه ووطنه، ودخل عالم الكتابة والأدب من أجل هذه الأمور فكانت النتيجة أنّه حُرم من إتمام دراسته العليا، ولكنّ هذا لم يمنعه من الاستمرار في الكتابة والتجوال في عوالم الثّقافة والأدب. ليكتب الشّعر والقصّة القصيرة والرّواية والمقالة، وفي ذلك يقول*:

“كأنّ قدر الكاتب الكردي -الذي يكتب بالكردية تحديداً- أن يكون متعدّد المواهب وينوّع في المجالات الأدبية والسياسية لأنّ تاريخ الكتابة باللغة الكردية قصير، بسبب المنع والقمع اللذين تعرّضت لهما على أيدي النظام، ما أشعرني بالمسؤولية بوجوب التنويع في الكتابة، والكتابة في مختلف المجالات والأجناس، والعمل على النهوض باللغة الكردية الفصيحة”.

محمد سيد حسين وجد أنّ هموم أمته وقضاياها والوضع الصعب الذي يعيشه عموم شعبه كانت الدّوافع الأساسية التي حثّته على الكتابة والنّشر، وهو الحاضن للوطن والشّعب في صدره أينما ذهب وأينما حطّ به الرّحال، ويظلّ يجعل من الوفاء والصّدق والالتزام مبادئ له، يسير على هداها، فنجده يؤكّد على أنّه*:

" انطلق في كتابته من هموم شعبه ومن خصوصيّة المعاناة والمعايشة والوضع الصعب والمشقات التي تعرّض لها وعانى منها عبر التاريخ، لدرجة وصلت إلى حرمانه من ثقافته ولغته، وطالت وجوده نفسه. ويذكر أنّ هناك العديد من العوامل ساهمت في إبقاء الشعب الكردي متخلّفا عن شعوب المنطقة".

أصدر حتى الآن العديد من الكتب والمؤلّفات في مختلف صنوف الأدب والكتابة، وما يزال مثابراً على نهجه الذي رسمه لنفسه منذ بداياته، وهذا ما يجعله محلّ تقدير واحترام شعبه والمحيطين به وإن لم ينل الاهتمام والرّعاية اللائقين به مقارنة مع جهوده وعطائه، لذلك رأى الاتحاد العام للكتّاب والصّحفيين الكرد في سوريا أن يردّ إليه بعضاً من جميله لشعبه ومجتمعه بإعداد ملفّ خاص به يضيء جوانب من حياته الشّخصية والأدبية.

يُذكر أنّه ولد في گرى زيا عام 1943م التّابعة لبلدة عامودا، وبدأ التّعلم بلغته الأمّ كتابة وقراءة في سنّ مبكرة عام 1957م، وفي عام 1987 بدأ بنشر أعماله ونتاجاته في وسائل الإعلام بشكل رسميّ.

*-من حوار للكاتب هيثم حسين، نشر يوم الاربعاء 19مارس 2014 في موقع العرب.

*- المرجع نفسه

محمد سيد حسين في مرايا صديق العمر

صبري علي

هاجر المرحوم-سيد حسين خليل من قريتهsitê- في العشرينات من القرن الماضي من كردستانBakur- إلى كردستانRoj ava-حينذاك عقد العزم على أن يعمل بالمياومة- لكسب قوت عياله- في سكة حديد حجاز بغداد، حتى أن استقر به المقام في قرية تل عربيد، ثم أصبح مالكا لقطعة أرض زراعية. كان بيت المغفور له مفتوحاً لجميع أبناء قريته :تل عربيد والقرى المجاورة لها، يأتون للاستئناس والمشورة.

السيد المغفور له كان شهماً كريماً شجاعاً حكيماً. حكيماً في أقواله وفي حديثه مع الآخرين، ويحب الصدق ويكره الكذب، كان وطنياً محباً لوطنه كردستان ولشعبه الكردي، يأوي المناضلين من أبناء جلدته، من أمتال المرحوم: جكر خوين الشاعر الكبير، ورشيد كرد الخ. السيد حسين كان قوي الذاكرة، حاد الذكاء، وما كان يتكلمه يبدو وكأنه محض نظرية !؟

نجله محمد سيد حسين، اكتسب صفاته الحميدة المتعددة، ومنها القومية الكوردية من والده-سيد حسين. قال لي محمد: في بدايات تأسيس حزب الپارتي كان حميد درويش ملاحقاً متوارياً عندنا في البيت. أراد يوماً أن يذهب إلى أحد القرى. حينذاك قلت لوالدي:

ألا تقول لحميد أن ينظمني في الحزب؟

فأبلغه طلبي

قال له المرحوم حميد: إن محمد صغير السن. مثله غير مسموح له أن يصبح عضواً في الحزب.

تعرفت على محمد في مدرسة- عمر بن الخطاب الخاصة- العائدة لآل الخزنوي، حيث كان قد طرد ورفاق له من مدرسه تل معروف من قبل بيت الشيخ، لأن أمرهم اكتشف بأنهم ينتمون إلى خلية حزبية.

ومنذ ذلك الحين كان يكتب بالكردية لكن بالحرف العربي. كان كثير الحركة وكثير السؤال عن الكلمة الكردية، أية كانت.

حتى إنه كان أحياناً يلتقط كلمات باللغة الكردية الفصحى المعبرة، المأخوذة من أمهات القرية، وهن يخبزن الخبز على التنور. وكان يسألهن عن أسماء معجنات خبز القمح، ثم راح يستقي مفردات كردية من التلفزيون الهندي أو الفارسي.

يقرأ مالجلات باللهجة السورانية، وينقحها، ويحولها إلى اللهجة الكرمانجية، و عندما كان مكتب الجلاليين في الحي الغربي الجنوبي في القامشلي، فقد كان يقتني- من ضمن ما يقتني الصحف والمجلات والكتب الكردية- باللهجة السورانية، ويستفيد منها في تشكيل قاموسه الخاص.

محمد سيد حسين لم أره مرة واحدة، وهو خارج من بيته، من دون أن يكون حاملاً معه قصاصات ورقية، أو دفتر جيب صغير. كل ذلك لأجل كتابة كلمة يلتقطها كيفما كانت، وأينما كانت ... فقد كان يقرا كثيراً.

أخيرا هذا الرجل كان أستاذه: خلفيته الاجتماعية اكتسبها من علاقات والده المرحوم السيد حسين، والمرحوم الشاعر الجليل Seydayê têrên

أرجو له المعافاة والشفاء من أوجاعه التي أبعدته مؤخراً عن عالم الكتابة الأثير عنده..!


العيْن في ملف الكاتب محمد سيد حسين

إبراهيم محمود

أريدَ لهذا الملف، ومن قبَل القائمين على إدارته، أن يكون ملف الكاتب الكردي محمد سيد حسين " 1943-...". إنه كبقية الملفات التي احتفت بكتّاب كرد، تركوا بصمات لهم في الثقافة الكردية، وفي نطاق العلاقات الاجتماعية ذات المنحى الثقافي كذلك، سوى أن هذا الملف يتصف بميزة خاصة، وهي أنه يخص كاتباً دخل ساحة الثقافة الكردية على الصعيد الاجتماعي، وفي مضمار الكتابة بالكردية اللغة الأم للكاتب، بجهوده الذاتية. فالذين تعرَّفوا عليه، وأقاموا علاقات معه، وهو بحضوره الاجتماعي وعلى نطاق مدينته التي أمضى فيه عنفوان شبابه " قامشلو " موزّعاً وقته بين ممارسته لحرفته اليدوية كنجّار، وكمهتم بحقوق العمل نقابياً، حيث يكون واجبه العائلي والاجتماعي، ووقته الآخر والذي انتهى إليه أمره، ومنحه فيما بعد، وبعد أن نال منه تعب حرفته ما نال، المزيد فالمزيد من تركيزه العقلي والنفسي، دون السؤال عن ضريبة العمر المتقدم، ومصاعب القراءة والكتابة الخاصتين هنا، معتمداً إرادة ذاتية أمكنته من تحقيق ما يصبو إليه وهو أن تكون القراءة الجامعة بين الكردية" لغته "والعربية " اللغة الرسمية في الدولة "، والكتابة بالكردية حصراً شاغله الرئيس، في أواسط تسعينيات القرن الماضي. وهي مغامرة سعيدة تستحق أن تسمّي اسمه في واجهتها، في المسار الموسوم .

محمد سيد حسين الملقب بـ "أبو رشيد" في وسطه الاجتماعي وحتى الثقافي، محب العلم حيث إن أبناءه وبناته حصّلوا شهادات تعليمية محترَمة، البعض منهم حمَلة ليسانس "بكالوريوس" وهو ما شكّل تعويضاً له لحرمانه من متعة لغة العلم والتعليم، لأسباب اجتماعية ومادية أحالت دون حصوله على ما كان يريد في إطلالته الشبابية الأولى، فكان له ذلك من خلال أبنائه وبناته، إنما أيضاً كان له ما لم يفلح فيه كثيرون في بلوغه، ممن حصّلوا شهادات جامعية عالية،أي دون أن يكون لهم أي أثر يُذكَر، في حقل القراءة المنتجة أو الكتابة ذات القيمة المعتبَرة، رغم الجهود الشاقة التي بذلها وعاناها تحت وطأة تحديات الحياة من حوله، ليصبح، بحق ، محل فخَار واقتدار وقدوة لدى أفراد عائلته وحتى أهله وأصدقائه، وفي الوقت نفسه، محل تقدير الذين عرفوه عن قرب، وتعايشوا وإياه على مدى سنوات طوال: زادهم الثقافة، وزوادتهم طلب المزيد منها، بما ينير مجتمعهم، ويقرّب المسافة بينهم وتلك الغايات المناقبية، بالنسبة لشعبه الكردي، في وحدة صفه، وتحقيق حلمه القومي المشروع كردستانياً، دون أن ينسى الآخرين، بتنوع لغاتهم وهوياتهم، وقد لسنوات طوال أيضاً هذه العلاقات .

احتفاء بهذه الطريقة الاستثنائية في تحقيق الذات الاجتماعية والثقافية التي تمتد صوب الآتي، وتقديراً من الذين أقاموا علاقاتهم معه، أو كانت له علاقات حميمة له معهم، وهم تنوع واختلاف، هم من مستويات اجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة، كان التنادي من قبل أصدقائه، ومحبّيه، ومثمّني تلك اللحظة العمرية المفصلية في حياته، ويناعتها، كان هذا الملف من أسرة " بيونوسا نو: القلم الجديد "، ليكون شهادة حية، من كتّاب يشهدون له بحضوره الجميل هذا: أصدقاء عن قرب، أحباء عن قرب، مهتمين به عن قرب، داعين له بطول العمر ودوام الصحة.

وإذا كان هناك من تفاوت في توزيع المواد، أو الحضور في الكتابة، فلعل ذلك راجع إلى أمين اثنين، وهما يتكاملان هنا: عدم اطلاع كثيرين من أصدقائه ومعارفه على مؤلفاته، وهم في المهاجر المتباعدة عن بعضها بعضاً، وهو نفسه يقيم الآن في " التشيك "، ولضيق المهلة المعطاة لإخراج هذا الملف، وهذا ما يمكن تبيّنه من خلال أسماء المشاركين في الملف هذا.

وإذا كنتُ من بين هؤلاء الذين عاشوا ويعيشون، وإلى اليوم، مثل هذه العلاقات التي تعلَم المرء كيف يعيش بسواه، ويتعلم من خلال هذه العلاقات، فإن الذي يمكنني قوله في مختَتم التقديم للملف المذكور، والذي يعنيني اسماً، هو شكري الكبير للمعنيين بالصحيفة، والمشرفين عليها، فرداً فرداً، وتقديري لهم، وقد منحوني ثقتهم، وفي شخص الصديق الكاتب إبراهيم يوسف، فكانت هذه الكلمات المتواضعة.

محمد سيد حسين "أبو رشيد" لقطة فوتوغرافية عن بعد!

إبراهيم اليوسف

لا أحتاج اعتصار الذاكرة كثيراً، لأسترجع ذكريات بدايات تعارفي بالكاتب محمد سيد حسين، العم، والرفيق، والصديق كان ولا يزال بيننا إرث كبيرمن التوادد والحب والتقدير، المتبادل، بل والتاريخ المشترك في بعده الشخصي- في أقل تقدير- الذي يمكن أن أستعرضه، في وقفة- كهذه- من ضمن الوقفات التي تفرض ذاتها على أي كاتب صاحب ضمير تجاه مقربيه- أياً كانوا- لاسيما إذا كانت لهم بصمات في حيوات. بصمات في عالم الموقف. بصمات في عالم الكتابة، إذ لصديقي أبي رشيد حصته في كل ماذكرت، وسواه، وذلك منذ أن تعززت صداقتنا، لاسيما ضمن إطارمجموعة من المقربين، وأولهم إبراهيم محمود الذي لن أقول عنه: ثالثنا، بل ثانينا، أو أول من عزّز بنيان هذا الثالوث التعارفي، من دون أن ننسى آخرين، وفي طليعتهم: صبري علي- أبو آزاد اللاجىء، ولا أقول المقيم، الآن، في مملكة السويد، ولايفتأ يتواصل بي وبـ أبي رشيد وبـ إبراهيم، إذا نحن أمام مربع لأقل عنه: ذهبياً من جهة الصداقة، والتواصل، ولا أعني التقويم، مادمت بينهم!

كان اسم أبي رشيد يتردد في منظمة الجزيرة- للحزب الشيوعي الذي اقتربت منه، واقترب رفاقه مني في أول ثمانينات القرن الماضي، ولم أكن لأطمح، أو أطمع يوماً إلا أن أكون صديقاً لهذا الحزب، إلى أن حصل ماحصل، وغرقت في يم التنظيم الحزبي. في تلك الفترة- تحديداً- كان اسم محمدي سيد حسين بارزاً في هذا الوسط، بعد أن كان له حضوره في الحركة القومية الوطنية الكردية، كما والده الراحل. كما أخوته الكبار والصغار، بل وأنجالهم، ممن كانت بيننا معرفة عميقة، بل وبيني وبعضهم صداقات لاتزال مستمرة، وإن باتت تتوقف مع قسم آخر، نظراً لتحولات مواقف الحياة، وهو أمر جد طبيعي!

لن أستعين ببوصلة ذكريات لتحديد المرة الأولى التي التقيت خلالها بأبي رشيد، إذ إن بيت شقيقه حسن أبي نضال- الذي ذكرته في كتابين لي أحدهما سيروي والثاني روائي- قرب البيت الأول الذي سكنته في قامشلو مع أهلي، ناهيك عن أننا في حي واحد وإن كان الشارع العام. طريق قامشلو عامودا ينصف هذا الحي، فقد كان وجهه مألوفاً، كما اسمه. كما حضوره السياسي. وكنت آنذاك طالب ثانوية، ثم طالباً جامعياً، ومعلماً، فمدرساً، أنشر بعض قصائدي ومقالاتي في صحافة تلك الأيام، ومن بينها صحافة الحزب الشيوعي السوري، وحدث أن زار الشاعر الكبير حامد بدرخان قامشلو مع آخرين في المرة الأولى- لعلي أتذكر بعضاً منهم- ليقال لي: إنه يسأل عني، ولأكون وعبدالسلام نعمان وعبداللطيف عبدالله ضمن السهرة التي تضمنا في قبو المكتب الحزب الشيوعي في قامشلو. أجلس قرب حامد، ويعنى بي، باعتباري كنت الأكثر نشاطاً نشرياً من بينهم، وكنت المعتنى به حقاً من قبل الرفاق الشيوعيين في تلك الفترة، قبل أن تنشأ خلافات تنظيمية، ليصبح بعض رفاق الأمس خصوماً، والعكس، وهذا بدوره أمر طبيعي أتفهمه، وفق قوانين سنة الحياة!

في تلك السهرة، تبادلنا الحديث- أنا وأبو رشيد- قال: إن حامد سأله عني، وراح يسأل: من أهلك؟، فحين أعلمته من أبي وجدي؟ بل من هم عائلتي- بحسب تصنيفاتنا الجزرية المعمول بها- فقد قال كلمته التقويمية، وليبدأ أول تعارف بيننا، من دون أن تتعمق العلاقة أكثر، باعتباره كان أكبر مني سناً، وكنت بعد طالباً جامعياً، وكان أبو رشيد ممن يعملون في مجال مهنتهم، ويبرعون فيها، كما أية مهنة عمل فيها، نتيجة قوة ذكائه وشخصيته. قوة روح الإقناع التي يمتلكها، كما سأعرفه تدريجياً، فيمابعد. اهتمامه بالكتاب، كان جد واضح، وتحديداً في مجال اللغة الكردية الأم، وهوما اكتشفته- لاحقاً- لاسيما بعد احتضان بيته مناسبة إحياء ذكرى رحيل عمه- الأديب الشهير والريادي الشهير والريادي ملا أحمدي نامي- رحمه الله، ودعوتي من قبل أ. سامي نامي الذي كانت معرفتنا أقوى، وأبعد، وأرسخ، آنذاك، وإن أحالت دورة الزمان والمكان وكثرة مشاغل كل منا بيننا!

في استذكارية الراحل ملا أحمدي نامي قرأت قصيدة- أسئلة الماء- التي نشرها أ. سامي، وحدثني عن ترجمتها، آنذاك، وماعدت أسأل ماذا تم بشأنها، وهو ابن عم أبي رشيد، وممتلك بدوره لأدوات اللغة، والكتابة، بل هو كاتب حقيقي، ولكم تمنيت لوأنه تفرغ للكتابة، بدءاً من مذكرات أبيه الراحل وانتهاء بمذكراته الشخصية، لاسيما وأنه أحد المربين المهمين-أيضاً- وقد تخرجت أجيال من أبناء وبنات جيلنا على يديه، وآخرين من المربين الرادة الأوائل!

لقاءاتي وإبراهيم محمود وأبي رشيد- وأحياناً كثيرة بحضور أبي آزاد- باتت تتكثف، نتحدث في أمور كثيرة، أولها: الشأن الثقافي. مازلت أتذكر جلستنا- العملياتية- في عصرونية انتفاضة 12 آذار وليلتها الأولى واليوم التالي وما بعد، في بيتنا: إبراهيم محمود وهو وأصدقائي- شبه المقيمين- لاسيما في مثل هذه الحالة، وأكاد لا أتذكر كثيرين سوى: أحمد حيدر- سيامند ميرزو - د. سيف داليني. كان البيت ممتلئاً. هواتفنا جميعاً كانت مشغولة بتلقي المكالمات عما يدور. عن أخبار الانتفاضة، كان أكثر من في الغرفة ينقلون لنا ما دار وما علموه عبر الهاتف، وكنا نفرغ ذلك في أخبار سريعة، ننشرها، ونعلم الكثيرين من المعنيين الذين يتصلون بنا بغرض التحرك في الخارج بالوقائع الجارية. كان أبو رشيد من عداد أكثر الذين يزوروننا في تلك الأيام الصعبة، وننقل مكان لقائنا إلى بيته، أو بيت سيامند أو بيوت بعض الأهل نتحدث عن الشهداء. الجرحى. المعتقلين. مجهولي المصير. الانتهاكات، بل المجزرة التي تبلغ ذروتها في اليوم التالي، وحالة- منع التجول- الطوارئية، لنتواصل بعدها هاتفياً، لاسيما بعد تكاثف العيون المتربصة.

أحد الاتصالات التلفزيونية عن الانتفاضة- أتذكر- أجري معي من بيته، وتحدثنا معاً عمن لايزالون ساكتين، لم يبدوا موقفهم، لاسيما بعد ذلك اتصال صديق مشترك قال لنا: أعتذر، لن أتحدث إلى التلفاز- وكان مقرراً أن يتحدث باسم مستعار- قائلاً: لأن صوتي معروف!

وكان قد استبد به الحماس أن يتحدث بعد سماعه مداخلتي عن الوضع القائم، ليذكرأبو رشيد- الموقف- طويلاً، بعد انجلاء الخوف بطباعه- الإرهابي- لنعود إلى دائرة الرعب المعتاد، المعيش، تحت سلطة نظام حزب البعث العربي الاشتراكي.

في ذلك اليوم، كنت وإبراهيم أبو مالين في بيت أبي رشيد- في حالة توتر وقلق- وثمة وفد من الشباب أتابعه - لتهريب- فيديوات الانتفاضة عبر الحدود التركية، كي يستلمها د. محمد محمود في نصيبين، ويرسل نسخاً منها إلى- سيروان حج بركو- و- ك ت ف- وأغادر منزله، بوساطة دراجة نارية يقودها سيامند ميرزو لنذهب إلى بيته، حيث موعدنا، ذلك، لنتناول الغذاء، من دون أن أستطيع إلى أن ياتيني النبأ المطمئن: عاد الشباب، ونفذوا المهمة، فأعلم أبا رشيد و إبراهيم بذلك، وأستطيع مواصلة يومي، متابعاً شؤون الانتفاضة.

حاول أبو رشيد أن يشغلني- قليلاً- خلال اللقاء، ليخلصني مما أنا عليه وفيه من توتر وقلق، على من قمت بإعطائهم الفيديوات، لأن اكتشاف أمرهم سيؤدي- لاسمح الله- إلى هلاكهم، فوضع مجموعة نصوص له بين يدي. بعضها خواطر والآخر نصوص شعرية أو مقالات. قرأت بعضاً منها، فأدهشتني لغته العالية، ورحت أسأله عن معاني بعض المفردات التي كان يوظفها، في إطار جملة أكاد لم أقرأ مثلها من قبل، فقلت: أتمنى أن تنشر بعض ما تكتب، فرد علي: إبراهيم وأبو آزاد يلحان علي، إلا أنني لما أزل ممتنعاً عن النشر!

ما أكتبه أحتفظ به لنفسي إلى أن يأتي وقت ذلك!

بعد عودته من زيارة له إلى أولاده في- التشيك – في العام 2010 وضع بين يدي بعض الكتب الأولى التي طبعها، في طبعات أنيقة، وإن بنسخ محدودة- أولاً- كما أعلمني، وقرأت بعض ماورد فيها، لأدرك أن أبا رشيد قد غدا في مساره اللائق به، لاسيما وأنه نشر بعض المقالات ولو القليلة في المواقع الإلكترونية، ضمن هذا الإطار الثقافي أو ذاك، وليفاجئنا بعد وقت وآخر، ويكون- في تصوري- أول كاتب كردي ينجز مخطوطات كثيرة- بعد أن تجاوزالستين- ضمن فترة جد قصيرة، ويطبعها، ليصنف في مرتبة كتاب الكردية الأكثر إنجازاً، وعبر موضوعات ومحاور مختلفة، وأشكال كتابية عدة، تتراوح بين السرد وعالم الشعر، اللغة. الاجتماع. النقد، بل بين الثقافة والسياسة والسيرة والرؤى والحوار، ليصبح- الآن- أحد الأسماء الوازنة، ذات الحضوراللافت بعد أن أفرغ جزءاً كبيراً من حالة الكمون الثقافي، الإبداعي، كي يقدم لنا ما يعتد به، مشكلاً مكتبة كاملة.

أعترف، أن أبا رشيد، ومنذ أن توثقت علاقتي به- وكان حريصاً على علاقاته بنخبة من المثقفين- فإنه كان شديد الحرص على التواصل بيننا، لأراه حقاً في مرتبة- العم- كما خاطبته، أكثر من مرة، وذلك لحرصه الشديد على من حوله، وأنا من بينهم، من دون أن يكف عن تقديم ما ينبغي من المشورة والنصح لي أنى استدعى الأمر ذلك، كأحد المقربين جداً، لاسيما وأن الحدود امحت بيننا، ضمن مجموعة صغيرة، لم يتمكن انتشارنا في أرض الله بيننا، حيث هو في مدينة Teblise تبيلتسة الشيكية، وإبراهيم في دهوك وأبو آازاد في السويد، وهكذا بالنسبة للآخرين من المقربين، كما هو حال أبناء وطننا الذين تبعثروا في جهات الأرض كافة؟

ثمة ما لابد من قوله- هنا- وهو أن الصديق إبراهيم اقترح علينا أن نمنحه إحدى جوائز الاتحاد التي تليق به، وما كان مني ومن الصديق رئيس الاتحاد العام أ. عبدالباقي حسيني إلا أن عرضنا الفكرة عليه، إلا أنه رد بكل تواضع عن أن هناك آخرين يمكن منحها لهم وغير ذلك مما يدل على - إيثاره- الآخرين على ذاته، ما جعلنا نقدم على إطلاق ملف أول عنه في نسختي بينوسا نو: الكردية منها والعربية، في آن، كنوع من التكريم، لاسيما وإنه كتب وبغزارة، وهو يواجه المرض، بل أتذكر كيف أنه أنجز كتاباً عن الشاعر الراحل فرهاد عجمو- رحمه الله- في مدة زمنية قياسية، فيه الكثير عن لقاءاتهما التي تمت خلال السنوات الأخيرة قبل رحيل فرهاد!

لدي الكثير مما أقوله عن الصديق الكاتب واللغوي محمد سيد حسين، إلا أنني أرجئه لوقفات أخرى، وذلك لأنه يستحق ذلك، ليس لأنه أحد كتاب بينوسا نو -فحسب- بل لأنه أحد كتابنا الكرد ذوي الحضور، وقد استطاع خلال فترة زمنية قصيرة، قياسية، أن يقدم للمكتبة الكردية تراثاً جد مهم، نتيجة ثقافته الواسعة، وخبرته الحياتية، وقبل ذلك موهبته، ودأبه، ولما نزل ننتظر منه ما هو أكثر!

نشرت ذهه الآراء في "القلم الجديد – PЀNÛSA NÛ" العدد (96) – السنة التاسعة – 2020 م / 2632 ك



الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).