جاء التعريف بالكتاب هكذا "سيرة " إنما أي سيرة؟ أهي سيرة الكاتب، أم سيرة من يروي باسمه الكاتب، أم خلافهما أم بهما معاً؟ تأخذ السيرة مساحة واسعة تمتد في الطول والعرض، لتغطي أكثر من مكان، أكثر من زمان، حيث تكون العنصرية، كمفهوم، هي الخميرة التي تسهم في إنضاج المادة الخام معرفياً، وجعْلها في متناول " الفهم " وفي شمالة مكوناتها، و..غناها !

هيثم بعد مسيرة خصبة من الجمع بين نصوص روائية، ونقدية، يجد نفسه في مواجهة موضوع لطالما تهيب منه الكثيرون، لطالما أخفيَ بشأنه الكثير من التصورات، والمواقف الذاتية النشأة، لطالما كانت تثير تحفظ كلّ من الكاتب نفسه، لأنها أكثر من كونها مرئية، والقارىء الذي لا يكون مجرد متلق، إنما محيلاً مقروءه إلى ما هو مخبري لاستنطاق المغيّب فيه. تلك مغامرة شيقة إذاً !

والعنوان نفسه لا يخفي لعبته في ربطه بين العنصري كصفة والغربة التي تحوَّل عليه أو تنسَب إليه علاقة. وهو ما يشغل متخيل القارىء عما يكونه هذا العنصري: نوعاً، جنساً، دوراً، طبيعة أداء، تفكيراً، تلقياً وإرسالاً، وما هي هذه الغربة التي ترتبط به جهة، ثقافة، مجتمعاً، سياسة، تحليل نفس، تاريخاً...إلخ، ولا بد أن لكل ذلك جمالية أو جماليات تتوازى مع ما يمكن أن يثار أو يُستقرأ في أصل المفهوم، أي كيف هي ذائقة الكاتب وقارئه، كيف  تكون الإقامة في العالم، والنظرة إلى العالم، والبعد الإيقاعي لكل معنى..الخ.


في متوالية سردية، أو ما يشبه السرد القصصي، وما يشدّد على الوصل بين مجموعة العناوين الداخلية التي تكوّن حصيلة لكتاب، يكون العنصري باسمه العلم المعلوم بأمره كثيراً، والعنصرية التي تتجاوزه وهي تستغرقه، وتطرح نفسها أمام كاتبها، دون أن يشبع نهمها المعرفي، فما أوسعها نطاقاً، وما أعمقها قاعاً وسخونة، وأمام قارئها، وهي تستدرجه إليها، بمقدار ما يتم النظر فيها من خلال تلك الطيات المرآوية التي يحملها، كما يحملها كل منا، منذ الصغر، وقبل المباشرة باللثغة الطفولية الأولى، لأن ثمة تاريخاً طويلاً يتجاوز المكتوب فيه، إلى ما قبله، ويسائل المعلَن باسمه، لوجود ما لم يُحَط به، في كل هذه النقاط بطابعها البانورامي، الشقاقي، الوئامي، الصدامي، الالتحامي، التنابذي، التقابلي، التخاصمي، التفاعلي والتكاملي، التباعدي والتقاربي، يتحرك قلم الكاتب سيّالاً حمّالاً لوجوه تترى من المفرد الجمع للعنصري داخل موضوعه، أو العنصرية التي تتراءى بمعزل عن أي منا، لانتسابها إلى ما هو تربوي، اجتماعي، سياسي، ثقافي، تاريخي، رمزي ودلالي مجدداً، حيث يمكن القول أن الكاتب أبدع في استخراج الكثير من ملتبسات العنصري، في موقعه، وفي انتمائه الاجتماعي والاثني، وفي التربية العائلية، وما يفيض عن ذلك. وأقول: أبدع، رغم ما يقال في الإبداع مضافاً على الفن والأدب، سوى أن هذا المزج بين لغة الأدب والنقد، يكسِب لغته ما نوَّهت إليه . وما أسهم في تفعيل أثر المسطور لديه، وأضفي على لسان كتابته الذرب هنا مسحة المصادقة وبُعد النظر، هو أنه منذ سنوات يقيم في أكثر العواصم" المتروبولات " العالمية، إن لم تكن أولاها حمولة أثر أو تميّزاً بهذا الفسيفساء ذي الميزة الثقافية المركَّبة والهاءلة الطيات: لندن، أي وهو يحمل الجنسية الانكليزية، وهي التي تفصح عن مدى الانفتاح على تلك العلاقات التي يسهل تبيّنها لمن يعنى بها في الشارع، في المؤسسة، في الحديثة، في السيارة، في محل العمل، في الصادر من قرارات ذات أرضية بروتوكولية، وسياسية رسمية، وعلى خلفية سياسية وتاريخية ودينية وغيرها، من تلك الإرهاصات والهواجس والشواغل التي ترفع من الرصيد الاعتباري الرهيب للعنصرية.

من المؤكد، أن الكاتب، أو الفنان، أو المفكر، أو المثقف في جوهره يعيش أكثر من غربة في مجتمعه، ليحسن اكتشاف المختلف، وتعريته بالمقابل، سوى أن الغربة هنا وهي في محيطيتها تعبّر عن موقعها الجغرافي، وتلك المساحة المضاءة والمشغولة بـ: عينات من " أمم الأرض وعالمها " تحفز على مضاعفة الوعي والنظر في أكثر من اتجاه وعمق، بغية تلمس ما هو مختلف أكثر، ورغبة في رغبة المعرفة بالمقابل .

وليس بخاف على القارىء القارىء، أن ما افتتح به هيثم كتابه، وفي مستهل " صراع الألوان والأهواء "، يكاد يلخص كامل الكتاب، دون أن يستنفده، بتنوع عناوينه، أي دون أن يسلب هذه العناوين بمتضمناتها حقها في التعبير عن تلك المناقبية بمرجعيتها السالبية، وتداخلاتها بالمقابل، إنما هي فعالية الرؤية الجامعة والقائمة على التمايز في آن، حين نقرأ:

العنصري: توصيف ينزع عن الذات والآخر أي قناع.

ثم: ما يأتي شرحاً، وتوصيفاً، وربما تأكيداً من قبله ( لا أبالغ إن قلت بأن كل واحد منا يخفي في داخله جوانب عنصرية ، أو يتكتم على شخصيات عنصرية متصارعة في أعماقه، بحيث يكون الجانب الوحشي غير المفلتر منا مشتملاً على نقائض يمكن تأثيم أي كان، قريب أو بعيد، بناء عليها وانطلاقاً منها .ص 7 ) .

ذلك ما يضع الشعور في موازاة العقل، أي جهة الإحساس والتفكير، وما لذلك من تأثير في تمثيل ما هو منتسب إلى العنصرية، لحظة الحديث عن الموقف من الذات التاريخية، وبيتها، وطبيعتها الاجتماعية، وصفة ثقافتها، ونظرتها إلى الآخرين، ومن ثم إلى الكون معتقدياً وعقلياً .

لا يعود العنصري مجرد كائن ملء النظر، إنما ما يمضي به إلى الداخل، ويخرجه، كما لو أنه من خلال فعل ما، أو موقف ما، أو سلوك معبَّر عنه بحركة، أو إيماءة، أو لفظة معينة، كفيل بأن يدفع به إلى الأمام، ويضعه في مواجهة مرآته النفسية، وما عليه واقعاً بالفعل .

هيثم يصبح هنا الشاهد والشهيد في آن، حيث إنه من خلال مدونته عن " العنصري " يكون شاهداً من خلال زاوية النظر التي بدءاً منها يتحرى من هم تحت نظره التحليلي والكشفي الداخلي بجلاء، وليكون هو نفسه موضوعاً لموضوعه ضمناً، حيث لم يستثن نفسه، ومنذ البداية. نعم، إن كلاً منا، من حيث يدرك أو لا يدرك، يعيش مستويات من العنصرية، ذات الدمغات المختلفة،وهي لا تنفك تظهر بألوانها،أو طبيعة ولاءاتها الاجتماعية والسياسية، وهي ترافقنا( تبدأ العنصرية في أصغر دائرة اجتماعية وتكبر مع المرء في رحلته. ص 8 ).

ويظهر أن هناك معاناة منها، هناك نوع من الشغف البحثي بها، ليس حباً وإنما تعبيراً عن إرادة معرفة للإحاطة بها في تنوع أبعادها، وهو ينوع في التعبير، والمحتوى قاسم مشترك لما تقدَّم وتأخر جهة إشهار العنصرية التي لا منجىً منها( أوقن أن العنصرية عابرة للأعراق والقوميات واللغات والأشكال الألوان، وكأني بها تكاد تكون حقيقة عابرة للأزمنة والأمكنة ، حيث تحفر لها وجوداَ متجدداً، وكأنها لعنة من لعنات الوجود البشري نفسه...ص11 ).

نعم، يمكن للمفهوم الحسابي أن يلعب دوره على صعيد الدراسات المقارنة، أو بالنسبة لعينات اجتماعية مختلفة في هذا الجانب، ويبقى المفهوم الهندسي فاعلاً لحظة التعمق في الحسابي ومنحه أبعاده الثلاثة ثقافياً.

حيث يُلاحظ هنا أن الكتابة تتنوع في طريقة عرضها لأفكارها، وهي تصل ما بين التعبير الذي يزكّي ما هو شعوري، وينمّي ما هو فكري بالمقابل، وطالما أنه لم يعدْ قارئه باتباع نهج محدد في الكتابة، لهذا فهو يتنقل بين تمثيل جمالي وآخر، أو تعبير مجازي أو خلافه، نظراً لعمق الفكرة.

إن ما يلفت النظر في أصل الفكرة هذه أو تلافيفها النصية، إن جاز التعبير، هو الاعتراف بصعوبة المبحوث فيه من جهة، وما يعزز الأمل في النفس، من جهة أخرى، كما لو أنه يقول: إن هذه الرحلة الشاقة التي أقوم بها، وهي ترتبط بموضوع غاية في الصعوبة والالتباس بالمقابل، تستحق كامل العناء، بما أن الهدف هو كيفية إضاءة الموضوع، بغية التحرر من ربقته، أي كما لو أن تسمية العنصرية في مكوناتها يجعلها أليفة بالنسبة إلينا .

بالنسبة إلى هيثم كاتباً وإنساناً، بالنسبة إلى قارئه، بالنسبة إلى أي منا، كما تقدم، ليس الحديث عن العنصرية بتلك السهولة المعهودة، إنما هي صعبة في معرفة ما يكوّنها ويلونها، وما يجعلها حديثاً محرراً من ذاتية الناطق.

في "ابتسامة ألبيرت" تكون المفارقة،، وهي لافتة، مثلاً، حيث ينبري شرطي أسود وفي عاصمة الضباب، متخذاً موقفاً سلبياً من الذين ينتمي إليهم بالذات، حيث الصخب من قبل بعض السياح، في بناية على خلفية من إقامة حفلة، وما في ذلك من تربية مغروسة اجتماعياً، ليقول( لا يمكن أن تحاصر هذه العنصرية المتفشية التي يتم تغليفها، بأقنعة لا تستر عريها، ولا تخفي ترقيعاتها،  ولا يمكن لأي قانون أن يكبحها لأنها فوق القانون ، أو لا يشملها القانون بحكم أنها زئبقية لا يمكن قياسها أو القبض عليها وتجسيدها كفعل يستحق الإدانة.ص14 ).

إنها وفورة تنفتح على تاريخ، وتسمي جروحاً لم تندمل بعد تحت وقع هذا الداء الوبيل بصفته الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، وتمدنا بما هو مرعب، وما تناول هيثم للفكرة في تجذرها، إلا تعزيزاً لهذا المأخوذ به.

ومن المؤكد أن من يتخذ موقفاً سلبياً من أبناء جلدته، وفي مكان آخر، لا يعدو أن يكون تجسيداً لتلك الرغبات اللاشعوية المكبوتة والتي تمارس ضغطها على صاحبها، وهذا الشرطي بسلوكه الذي يصعب تقبله، لا بد أنه في قرارة نفسه يشعر بالانتقام مما  هو قائم ومعاش سالفاً ، وكأنه يلمّح إلى أن أياً منا قد يكون في مقام هذا الشرطي، وعبر مكان إقامته، على خلفية من الحدث المروع والدال؟

معاينة الاخرين عن كثب قد توّفر للناظر معلومة كما يجب، إنما لا بد من الذهاب إلى ما وراء تلك المرئيات التي نتعرض لها، أو تصدمنا بمفارقاتها، لحظة الوصل فيما بينها، وهو ما نتلمسه لدى كاتبنا، مثلاً، حين يقابل بين الأبيض والأسود، ولنكون إزاء تاريخ طويل من العلاقات الشائنة التي تسجّل على المنطلق مما هو عنرية، كما الحال في " بطاقة حمراء "، من خلال موقف بسيط ولكنه عميق الأثر، حين رفض صاحب سيارة أن يركن سيارة في مكانها المناسب، ويشهر عنصريته في وجه المختلف لونياً: الأسود، لينبري تاريخ كامل ومرعب من الممارسات العنصرية التي مارسها البيض ضد السود، فلا يعود الأبيض مفهوماً لونياً، والأسود كذلك، بل يُسمي كل منهما ما يجعله نقيض الآخر ضداً على الطبيعة ( الأسود شعر أنه مسنود بجرائم الماضي التي تبرّر له اتعدي على الأبيض الذي افتراض أن عليه اتاراجع عن اتهامه، والبحث عن صيغ تزيل أعباء ماض لا يرضى بدوره عنه، ولا يشكّل مثار فخر له. ص 24 ).

وما يكون سبباً في المكاشفة النفسية والثقافية لهذا المشهد وأي مشهد آخر يناظره أو يستدعيه في الحال بالمقابل، من قبل الكاتب( العنصرية حيّة دائمة لا تموت، تنبعث في أي موقف، تمتلك بذور الاستعاة في كل تفصيل . ص 25 ) .

بالطريقة هذه، فإن العنصرية تبحث دائماً عن رموز لها، عن أبطالها وضحاياها وفي نطاق تلك الحلبات الاجتماعية المفتوحة، أو المفترضة، أو المنصوبة في واجهة الذهن .

هنا أذكّر بما تحدثت فيه ذات يوم، في موقع " الأوان- 13 تموز 2013 " تحت عنوان" عنصرياتنا المتزاحمة " وكانت البداية هكذا:

(تريدون أن تتحدثوا عن العنصرية؟ حسن إذاً، شدُّوا أحزمة الأمان، فالمطبَّات كثيرة وقاتلة إن دققنا فيها.

لكن مهلاً، عن أي عنصرية تريدون الحديث/ التحدث؟ فثمة عنصريات فولكلورية تميّز ثقافتنا التي تشكلنا بها وحافظنا عليها بصيغ شتى من باب الأمانة والإخلاص لأسلافنا، عنصريات كشكولية تباهينا بها طويلاً وما زلنا نتحفز باسمها في التعبير عما يميّزنا أخلاقياً وعلى أعلى المستويات!

عنصريات تتناهب فينا كينونتنا الجسدية، حيث اليمين قبل اليسار، والعقل قبل العاطفة، والفكر قبل الصورة، فصرنا في خوف من أنفسنا على أنفسنا، جرَّاء هذا الثالوث العنصري العضوي المؤصَّل فينا.

عنصريات تخترق لغاتنا ونحن وكلاؤها الاضطراريون، ممثّلوها، ملزَمون بحراستها والاستماتة في الدفاع عنها، لأنها تعنينا كياناً وبياناً، من خلال أفعال التفضيل، إذ يسهل إماطة اللثام عن أصولها الاعتبارية، والكشف الجلي عن مقامات التجنيس القيمية فيها في الأفضل والأحسن والأمثل والأبرز والأقوم…الخ، ولا غرابة في ذلك، إنما الغرابة حين يُتجاهَل هذا المد العنصري المتواصل في لغاتنا، من خلال ذكورية اللغة بالذات.

عنصريات تشدنا إلى وراء الوراء، إلى أسطورة التكوين، وهي تتمحور حول المفهوم الحوائي والآدمي للخلق البشري. حيث دشّنت عنصريتنا الخَلقية، وهي عنصريّة يتجدد إيقاع تكوينها منذ كان سام وحام ويافث. إلى درجة أن آدم نفسه، أي هذا المدوَّن عنه تاريخياً يتبدى لي واضع قواعد العنصرية” المثلى”، فحواء زوجته التي انسلَّت منه توراتياً رعت في جسدها نطفة زوجها الغرائبية الثالوثية الأجنَّة لاحقاً. مثلما أن الجبلَّة تلك مثَّلت بجعل آدم سابقاً على حواء، ويده على رأسها.

عنصريات الزمان والمكان، في الضرب بين عهود وعهود، باعتماد أرصدة معتقداتية ومذاهبية وجنسية وعرفية أو إثنية حيث الجهات لا تعود متساوية قيمياً، كما يعلم مؤرّخو الأنساب الأرضية بأقاليمها والبشرية فيها ضمناً.

وفي الأوج تأتي العنصرية اللونية في اسمها التليد تاريخياً، حيث جعلتنا إحَناً، أمماً دون أمم تتشظى بذاتها، إثر هذا الهوس في التدمير الذاتي للكينونة الواحدة فينا وما ننتمي إليه كونياً. وأشدد هنا على الأسود...).

وهيثم يستعرض فكرته عن العنصرية موزعاً إياها على مواقع ومواضع تشمل جوانب حية ومختلفة من المجتمع، وتستدعي تواريخ مختلفة.

وليكون الحديث عن الهول المستحدث على خلفية من زواج فتاة كردية من شاب أفريقي ، كما لو أن هناك خطاطة تخص الزواج: بين من ومن، وأين، وكيف، وهي عبارة عن تابوهات قائمة، ويغدو القول( كيف يمكن لفتاة أن تقترن برجل أسود .ص 27 )، مدعاة للنظر والمساءلة، حيث إن ذلك يستدعي تاريخاً كاملاً من العلاقات الاجتماعية والسياسية، حيث ( تم تحويل الفرد إلى رمز للانتقاص من قومية، ومن عرق برمته، وبالمقابل صار اللون حكماً بالحياة والموت على الآخر، بعيداً عن التفكير بمشتركات أكبر وأسمى من ذلك. ص 28 ).

ولحظة الانتقال إلى" ذو الصليب المعقوف" أو ما تصورة كذلك، وفي مثال قريب منا كلنا، وهو يتعلق بشاب مسيحي ومن منطقتنا " القامشلي "، حيث يلتقي به الكاتب، ويبصر صليباً كبيراً متدلياً على صدره، ويسمعه وهو يعبّر عن تخلف الجهة التي قدِم منها، إنما بالمقابل عن خيبة أمله، لأنه لا ينظَر إليه في الغرب، وحيث يتواجد على أنه ينتمي إلى مجتمعه، وحتى في الكنيسة، حيث ينظَر إليه بارتياب، وهو لا يخفي تقدميته بكلامه، لنجده متضمناً جملة من التناقضات التي تجعله حاملاً لتلك العنصرية البغيضة بطابعها الاجتماعي والثقافي ( في القامشلي، كان يعيش مشاعر التفوق أنه مسيحي..ص 35)، وهو في الغرب يستنكر انتماءه إلى المجتمع المسلم الذي قدم منه( استنكر أن تتم معاملته كأن لاجىء مسلم..ص 39 )، وليجد الكاتب نفسه، إزاء تلك الحقيقة المرة وقد واجهه بها، على خلفية مما أفصح عنه مكابراً ومتباهياً بما يكونه دينياً وثقافياً ( قلت له: عليك أن تدخل بعض التعديلات على صليبك... الصليب المعقوف يناسبك أكثر....ص39).

تلك لقطة زكية في عداد اللقطات ذات الباع الطويل في هذه الذخيرة الثقافية- النفسية الجهنمية الأثر.

في السياق نفسه، يكون الموقف السلبي غربياً من اللاجئين، جراء حوار بينه" الكاتب " وبين امرأة انكليزية، أي حيث الشبهة قائمة في اللاجئين من قبل الغرب، وفي نظرة دونية، وفي الآونة الأخيرة أكثر( يتم تحديد اللاجئين كأعداء في عدد من الدول والأماكن، وهذا التحديد لا يلبث أن يتنقل كعدوى بين شؤائح مختلفة من المجتمع، بحيث يغدو توصيف اللاجئين بالآخرين دارجاً كمصطلح بديهي لا يقبل النقاش. ص 44 ) .

وهي نظرة سلبية وممن ينتمون أصلاً إلى عالم الآخر، ومن منصة البريكست العنصرية يصبح اللاجئون عالماً واحداً موحداً لا تفريق فيما بينهم( في بريطانيا قبل البريكست، تم تصوير الآخرين، مهاجرين ولاجئين كحراب وسكاكين تستنزف ثروات البلاد ومقدراتها..ص 48) .

كما نوّهت، فإن الذي يضع العنصرية في خانة المساءلة، هو وجود نسبة من المهاجرين وقد تجنسوا بجنسيات أوربية، وباتوا يزايدون على أهل البلاد في ذم اللاجئين والمهاجرين، مثال ذلك ( بريتي باتيل ابنة مهاجرين هنود كانوا يعيشون في أوغندا وتركوا أفريقيا في الستينيات لستقروا في بريطانيا، وأصبحت من بين الأكثر تطرفاً في حزب المحافظين. وجونسون حفيد المهاجر التركي عثمان كمال الذي غيَّر اسنه إلى ولفريد جونسون. عثمان كما ابن وزير الداخلية العثماني علي كمال بيك الذي اغتيل عام 1922. ص 50 ) .

ولعلي أرى في هذه النقطة وما يقابلها من نقطة أخرى، أكثر من مدخل لبحث اجتماعي- نفسي، حيث إن التخلص من مخلفات الذاكرة الجماعية للبلد الأصلي بمجتمعه، لا يتم بيسر، بالعكس، ربما تجد المخلفات هذه مصباً لها في المجتمع المنتقَل إليه، وتفاعلاً من نوع آخر معه، كما لو أن الموقف المرسوم ترجمان ذات تعبّر عن واقعها المختلف، رغم مرارة الموقف هنا.

والعنصرية تقيم أعشاشها في مواطنها في بؤر قائمة تستقبلها وتحتضنها، وتعشعش فيها، وتفرخها في أمكنة كثيرة، وتنوع مع المتغيرات الاجتماعية، كما الحال مع متغيرات الأوضاع المأساوية في سورية، فـ( في الدول المجاورة لسوريا يتم تصوير السوريين كآخرين، ويتم تحميلهم أوزار الشرور التي تغرق تلك المجتمعات والدول التي ألقت بهم الظروف ليعيشوا فيها. ص 53) .

وما يجري من أوجه تعامل مقيتة في تركيا يبز ما يجري في لبنان تجاه السوريين( الحكومة التركية التي استقبلت السوريين ، وسماهم الرئيس أردوغان بالإخوة المهاجرين، في إشارة إلى الأنصار والمهاجرين في عصر النبوة، لم تتورع عن استغلالهم كأوراق ضغط وابتزاز بدورها داخلياً وإقليمياً ودولياً، تمارس العنصرية برداء مختلف، ولكن لا يبتعد كثيراً عن قناع المعارضة . ص 54 ).

وفي " جسور تجارية " أي ما يجعل من العنصرية مصيدة للآخرين، وعلامة نيل منهم عند اللزوم، ثمة تحويل ما هو رياضي إلى ما هو عنصري، والمشكل أن ثلاثة لاعبين سود، في الفريق الانكليزي في نهائي بطولة " يورو 2020 " أهدروا ركلات الترجيح أمام منتخت إيطاليا.. وفي الوقت الذي سعت الجهات المعنية إلى ضبط الوضع، لكن ذلك لم يمح الأثر كما يظهر، بمقدار ما يكون هناك التعبير عما هو كامن وينتظر فرصة ظهوره، مثال ذلك( بعد أن أسقط متظاهرون غاضبون ومناهضون للعنصرية في مدينة بريستول البريطانيا إدوارد كولستون تاجر الرقيق على خلفية مقتل الأميركي جورج فلويد، استعرت حملة لـ " تنقية " المدن من تماثيل من يمكن اعتبارهم شخصيات مسيئة أو عنصرية، أو إجرامية في حقب تاريخية سابقة. ص 61 ).

وذلك ما نتبينه بجلاء في " الجدران العازلة...لعنة العالم المعاصر "، والبدء مع هندي يعلق على ابن بلده الذي أصبح رئيساً للوزراء في بريطانيا، وقد ذكَّره به الكاتب، ليعبّر الآخر عن مخاوفه مما يمكن أن يحصل كارثياً بعد ذلك، وجرّاء التجارب والوقائع المعاشة، ليقول( ويتمنى ألا تشكّل هذه الفرصة التي تبدو تاريخية جداراً عازلاًَ بين أبناء البلاد فيما بعد .ص 69 ) .

الجدران العازلة مقامة في بنية الثقافة، وتتحرك في النفوس بمؤثراتها المدمرة، ولها مساحات واسعة، وقدرات كبيرة على التنقب، حيث ( لا تنحصر الجدران العازلة بين الدول والمدن، ففي كل مكان جدران عازلة، مرئية، وغير مرئية، ولعل تلك اللامرئية أشد خطورة وإيذاء من غيرها، بخحكم أنها مصدر الذخيرة الحية المدمرة للعنصريين الذين ينهلون منها لبناء جدرانهم المرئية على أرض الواقع. ص 72) .

ولا بد هنا من التحول إلى تلك العنصرية التي " تتحفنا " بها الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة وهي ( تعبّر عن مدى العنصرية المبثوثة بين طيات المجتمعات، وكيف أن أتباع هذا الدين أو تلك القومية يحاولون احتقار الآخر والنيل منه بطريقة لئيمة تصيبه في مقتل. ص 81)، ولندرك أثراً متحركاً ومنشطاً له في أمكنة كثيرة، ومن ذلك أن ( الإرهاب الديني بنسخته " المتأسلمة " يتماهى مع إرهاب الاستبداد السياسي ويتفوق عليه خطورة في كونه ينهض على  حقيقة مقدسة لا تقبل نقاشاً عن مدى مناسبتها للزمن الراهن..ص 86) .

وفي واقعة تعني الكاتب مباشرة، على خلفية من رحيل مفاجىء لأصدقاء ومقربين منه، وانتكاسته صحياً في " حصار الموت " والذي يعطي للعنف المؤلم ضده نفسياً مدَّاً لافتاً، وسط تلك العنصريات التي يعيشها أو يستشعرها ( أفكر بالموت كثيراً هذه الأيام. يحيّرني هذا اللغز. يتساقط أناس أعرفهم من حولي، في الوطن وفي المهاجر..ص 93).

هيثم الخارج من ناحية كردية في أقصى الشمال الشرقي من سوريا، هي عامودا، حمل معه صورتها، خريطتها الاجتماعية، أهوال العيش فيها، وتوضعاتها السياسية،  وتبايناتها الثقافية، صحبة ذاكرة منجرحة، وهي لا بد أن تكون ذات سهم في زيادة أوجاعه، وقد استقر في المغترب الانكليزي، حيث إن الفقدان لشيء ما، لموقع هو الذي يضع المرء في مواجهة العنصرية عينها( لا يتعلق الأمر بالبحث عن التقدير،...إنه متعلق بالاستحقاق المفقود الذي يكون ظل التقدير المفقود نفسه. ص 99).

ولعل المنفى عزيز على قلب كاتبنا ليس حباً فيه، وإنما تأكيداً على فعل ضخ الآلام والمفارقات التي تترتب على الإقامة فيه، ولا أكثر من حالات التعبير نثراً وشعراً ورسماً عن المنفى: منفى في الوطن، ومنفى خارجه، وثمة تنويع ( كما أن الظلم ظلمات، فإن المنفى مناف، والغربة غربات، لها وجوه متعددة، قاهرة، قاسية، دامية، وقد تكون مداوية للجراح ومعالجة للانكسارات السابقة.ص 102)، ليجري التأكيد على مغزى وجود خميرة الغربة الحية والنشطة في عجينة : مادة الكاتب أو الفنان، وما في النص هذا من حضور معزّز لفضيلة المنفى/ الغربة، كما في حال الروائي الألماني ألفريد دوبلن ( 1878-1957)، ولفت النظر إلى الدرس القويم لفاظاعات المنفى، كما في مواجهة جمهوره الألماني في برلين، سنة 1948 قائلاً( عليكم أن تقبعوا بين الأنقاض لوقت طويل وتدعوها تؤثر فيكم، وتحسوا بالألم والمصيبة. ص 108 )، كان من الصعب فهمه، لكنه ألم المنفى الفعلي هو هكذا، ألم معايشة الرعب الذي يتملك الجسد في عمومه. وكما الحال مع ادوارد سعيد في " خارج المكان " و" تأملات حول المنفى".." ص 110 ". اي ما يفصح عن لاتناهي القول في المنفى وهو في خضم رؤاه .

ولا تعود المنافي مجرد أوطان بديلة، بمقدار ما تثير كماً وافراً من الأوجاع الإضافية، جرّاء العيش في مجتمعات مغايرة تماماً لتلك التي خرج منها هذا أو ذاك، نعم، في " حين تتحول المنافي إلى أوطان بديلة " يكون هناك شعور آخر، حياة أخرى، مظالم أخرى بالمقابل، وللكاتب دورها الكبير في تسمية تلك المراتب التي يصوغها الألم في النفس( في الملاجىء، المهاجر، المنافي، يكتشف الكاتب ذواتاً كان يقهرها ويطلق لها العنان لتعبّر بحرية عمّن نصبوا أنفسهم سدنة للوطن والدين والأ‘راف والقيم ...ص104).

تصبح الغربة موضوعاً شيقاً وشاقاً للكاتب، وهو يجد فيها الكثير مما يحفّزه لأن يصبح فناناً، شاعراً، وروائياً، وباحثاً، وصعوبة معايشة هذه التحولات، وهيثم يشدد على نقطة الغربة وعمق دلالاتها وكيف يصبح أحدنا طريد الغربة( الغربة الحقيقية تتجلى في وجه من وجوهها لدى المرء حين يكون محروماً من أبسط حقوقه في الحياة ، في التعبير بحرية، في التمتع بالمواطن وحقوقها المشروعة الواجبة...ص 116) .

ولأن الكاتب في أساسه عرِف روائياً، ومنح للرواية تلك المكانة التي يراها أقرب إلى تمثيل نفسه، نظراً لوساعتها ورحابتها،  يكون له في " ملاذات " ما يجعله أكثر قرباً إلى نفسه بالمفهوم التذوقي والنقدي والتعبيري الدال، فثمة أمثلة من واقع الرواية، وهي تشهد له على مدى حضور الغربة، أو المآسي الاجتماعية ذات الصلة بالتمزقات الإنسانية والعنصرية بالذات ضمناً فيها.

فكرة الملاذ تستحضر ما ترتاح إليه النفس هنا، وفي الرواية ثمة المتنفس الروحي، لأن فعل الخيال الذي يعمل بموجب بساط الريح المعروف خارج سياق الأرض المشدود جاذبياً وواقعاً مرصوداً، يكون الملاذ بناء ما هو ساند للنفس مؤاساة ومكاشفة لنقائص الواقع نفسه .

إن البدء بعبارة( شعور باللاجدوى يستوطنني. ص 121)، مدخل يفصح عن وطأته، لقول المنتظر في تلك الضغوط التي يشكّلها الواقع نفسه، وجانب التوتر الذي يصفه شاهد بليغ على ما ينطلق منه ويمضي إليه، ليقول تالياً( في كل رواية أقرؤها أصادف صوراً من واقع مضن ٍ فيها بطريقة أو أخرى...الروايات ملاذات ، وملذات دائمة لي. أفكر في عالم الموت والحرب والشر..ص 123 ).

ولتنطلق مسيرة المكاشفة للمرصود روائياً في هذا المضمار: رواية الكندية مارغريت أتوو( حكاية الجارية " حيث الإشارة إلى سيادة الشر" ص 123"،ورواية الأنغولي جوزيه إدواردو أإوالوزا " بائع الماضي "، وما في ذلك من مفارقات: ما إذا كان يمكن بيع الماض وشراء أنساب مجيدة " ص 125 "وما أثارته البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش ( 1948 ) في أعمالها، وهي التي نالت جائزة نوبل سنة 2015، وهي تكتب في كتابها ( ليس للحرب وجه أنثوي . ص 127 )، ما يفصح عن عنصرية مركّبة ، وما يصل الكاتب إلى نقطة الاستهواء النفسي، حيث التحرر من جاذبيات سلبية كثيرة واقعاً، وربما لأن هناك نوعاً من استعادة التوازن حين يقول ( أما كيف يمكن للروايات أن تكون دليلي للمعالجة والاستشفاء، فهنا أيضاً أجد ملاذي في رواية " علاج شوبنهاور " للأميركي إرفين د. يالوم التي تتناول مراحل من جلسات العلاج النفسي، وكيف أنها تكمل سلسلة من الفلسفات السابقة، ولا سيما فلسفة شوبنهاور نفسه، وتقدم الفلسفة وعلم النفس والتحليل بأسلوب لافت بعيد عن التعقيد الذي قد ينفر منه القارىء. ص 130 ).

وليكون هناك انتقال إلى المعاناة النفسية مع تعلم لغة أخرى: الانكليزية كمثال حي، وما تستدعيه اللغة حين تعلمها من مآس على صعيد المجتمع الذي ينتمي إليه أحدنا، والحرمان من التعلم باللغة الأم، والعنف الممارَس جهة فرض اللغة المعتبرة رسمية دون غيرها.  في " في بحر اللغة اللغة " وهكذا تتم تسمية اللغة المحارَبة أو المقموعة حين يقول ( الكردية هي لغتي الأم، أعيش بها، أتحدث بها في بيتي ومع بناتي وزوجتي وأهل جميعاً، والعربية هي لغتي الأم في الكتابة أتواصل بها مع الأصدقاء...إلخ. ص 139). وما في هذا المسار من الإشارة إلى ظاهرة تهميش كل ما يخص الكرد، وما يترتب على ذلك من شعور بالاضطهاد القومي، أي وجود عنصرية مفعلة وموجهة بشكل ممأسس سياسياً .  وليجد مؤاساة له في رواية الكردي الإيراني بهروز بوكاني ( لا أصدقاء سوى الجبال )، والتي فازت بأرفع جائزة أدبية أسترالية، ليعلق عليها ( رواية بوكاني صرخته للعالم، جسره للعبور إلى حريته المنشودة، يأمل أن تحطّم أسوار سجنه، وهو الهارب من سجن إلى آخر..ص143).

وهذا ما يقرّبه من موضوعه أكثر فأكثر، حين يمضي بقارئه إلى حين كانت ولادته وعالمه الطفولي والشبابي والمعاناة المرافقة في " فضاء متعدد " وكيف دفع الكثير من روحه قبل ماله، حين سكن دمشق في بيته الريفي ( بيتي الذي قًصف بعد أن نزح منه أواسط سنة 2012 ) وليعبر عن أهوال الوضع آنذاك، وما يجعلها حلقة مرتبطة بجملة حلقات سابقة تشهد على بؤس الدائر هناك ( كانت حياتنا في سوريا، وبخاصة في عامودا، رحلة متجددة من المعاناة والقيود والرقابة، لا يمكن التصرف بحرية بأي شيء، كنا كأننا في سجن كبير...ص 150) .

وتتضخم معاناة الواقع، في نقطة أخرى، في " كائن أونلايني " حيث عالم اليوم الانترنتي، وتحولات العالم الكبرى، والصدمات التي يسببها لمن يعيش بأحاسيسه ومشاعره وحرارة أفكاره

( أشعر أنني أتحول إلى كائن أونلايني يوماً بيوم.. أتنفس مسكوناً بالأنين . ص155). لكن التواصل مع المكان الأول قائم، ومع المعارف والأصدقاء قائم، والذاكرة كفيلة بإحماء هذه الخطوط المتداخلة العابرة للقارات والحدود المصطنعة ( هنا أنا خارج نيران المكان وفي معمعتها معاً. أكتوي بنيران الذكريات ، وأتدفأ بها في صقيع الغربة .ص 159).

ولكورونا رعبه، لكورونا مأثرته في تهديد العالم أجمع، كلاً في بيته، حتى وهو بين أفراد أسرته، ولكل منهم نصيبه من الخوف، في " وحش فتاك " وما ترتب عليه من تغيرات وتجاذبات، ومما هو مرئي وكان غير مرئي ( كم كشف لنا الفيروس المستجد هشاشة عالمنا، هشاشة التكنولوجيا، وكيف عرَّى التجبر البشري، وأظهر ضعف الإنسان، وصغره، أمام هول ما تحمله الطبيعة له، وما يمكن أن يدمّره من مجهول لا يعلم كنهه...ص164).

ولا بد أن كاتبنا في " من أنت أيها الكاتب ..!" قد فكر طويلاً حين ثبت هذا العنوان تالياً، تبعاً لتقديراته، وهو يحاور نفسه، وليس القارىء، ويعلِم القارىء بطبيعة موضوعه، وكيف يمكنه تناوله : أبصيغة روائية أم بحثية، أم ميدانية، أم بالمزج بين الأدب والنقد؟ ليجد نفسه كما هو حاله هنا، أكثر أهلية نفسياً للخوض في غماره، لأن بناء رواية على هذا الأساس حقاً، وهو إزاء خيارات مختلفة، وجانب الصراع النفسي في ذلك ( كان علي أن أواجه شياطيني، وأتجرع سمومي، أن أتعايش مع أحفادي، وأروض رغباتي بالانتقام، أن أسمح لنفسي بالتعبير بقسوة ووحشية وعنف لغوي عما يعترك في قراراتي من جنون وعنصرية..ص171)، وثمة استرسال لافت في هذا الموضوع، لأنه يعنيه في الصميم، حيث الأنا ليست حيادية ( الأنا هي أنت أيها العنصري...صورتك التي تهرب منها في مرآتك أحاول تظهيرها أمامك ..ص 176)،

وليجد نفسه في مواجهة الحكاية وصنعتها( العالم أقسى من أن تؤثر به أية حكاية، علينا العودة إلى كتابة الفاجعة التي ندمنها..ص 184) ، ليجد ما انغمر به الطريق الأفضل في التعبير عن مكنونه، كما يراه هو، ويقدّره ويتذوقه هو طبعاً .

ولعل الكاتب في العنوان الأخير " معارك يومية " فتح جبهة الكتابة لديه على وسعها، جهة علاقته بالطبيب، وما عليه القيام به ( ضرورة تعاطي فيتامين D  لتعوض به عن الشمس المفقودة...ص185)، ذلك يثير التهكم، لأنه تذكر تلك الحروق التي أتت على جسمه، والذي يهم هنا في كثافة المسطور لدى كاتبنا، هو ما أفصح عنه بصدد القادم من الأيام سوريا( تؤكد الوقائع والمستجدات أن مستودع الأحقاد السوري مفعم بكوارث قادمة رابضة على طريق الدمار الشامل، كما تؤكد أن دماء السوريين المهدورة في سوق الحرب الدائرة هي البضاعة الرخيصة المعدومة القيمة التي يشهرها تجار الحروب والدماء في وجوه بعضهم بعضاً للاستثمار في المفاوضات ..ص 189).

والعبارة التي ينهي بها كتابه الجميل رغم رعب المحتوى تكاد تكون زبدة الدائر في الكتاب( أن تكون حرّاً في داخلك فأنت ملك العالم. ص 193 ) .

يعني أن العنصرية هي النفي الحتمي والمنطقي لكل الحرية التي يمكن للمرء أن يعيشها أو يستشعرها داخله، وهذا يعني أن كل ما يخص موضوع الراحل النفسية، والأمان مؤجل إلى إشعار آخر وآخر... وآخر..!



مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية