توطئة:

الشّعر (في وردة الغمام) رسالةُ خفيةٌ، غامضةٌ، مرسلةٌ من كائنٍ يحاول الإنشاد والغناء للعالم، لقيظ الصيف في الجزيرة، لقطرات النبيذ المندلقة من شفاه أيلول ونضج عنبه، لحقول القطن التي ما عادت تكترث بعجاف السنين، للدور المهجورة المسكونة بالعدم، للأمسيات الخجولة الغافية بين ذراعي الحرب بصمت..

وهذه كلها إشارات لإثارة القارئ تدعوه إلى النهوض أو السقوط، وقصائد أقل ما يمكن أن نصفها بـ"ظمأ العشق وسراب العاشقين"

إنها إشاراتٌ لكائنٍ يتدبّر أمره بالشعر لكائناتٍ تهيم في صفير الطير، كائنات من شأنها اقتفاء آثار الكلام وطحن السُّؤال بالقبلات دون أن يُسمع تحطم الطريق. كائنات هشة لكن روح الشعر تزيدها متانةً، متماسكةً تتراقص في عرس الحياة قبل المضي نحو المنفى، ليترك الشّاعر حقلاً من إشارات الاستفهام؛ فيثير فضول المار منها(النصوص) حول أسماء لأماكن وشخوصٍ تتهافت بطراوة سماتها روح العناوين والمضامين.. لن يكون وعندئذ من الغرابة أن يزيل الحجاب ويكشف عن الغامض منها.

يعيدنا الشاعر خالد حسين للنظرة الأولى في مجموعته الشعرية الثانية هذه، بعد الأولى المعنونة بـ" كنملةٍ جائعة، كلاجئٍ حزين 1989"، التي لم تحظ بالطباعة والنشر. يعيد بنا إلى البداية من أيام الصبا والمواقيت المختلفة واللحظات الهادئة؛ كي تستيقظ الأنثى على تخوم القرى التي عاش فيها والتي سكنته لأقصى جهات العشق، آن كانت النوافذ مفتوحة على الصباح ليطل هو منها على العالم بشاعريته.

في المجموعة التي صدرت مؤخراً عن دار النخبة للنشر والطباعة والتوزيع 2023 المتضمنة نصوصاً أدخلها الشاعر ــ الناقد إلى سجن التأريخ، وهو القائل: لن تكون قصائدي رهينة الزمن، إنما أكسبها الاستمرارية بما يليق بهشاشة النفس البشرية وطبيعتها. إنها نصوص الفترة (1990 ــ 1994)، نصوص مقدَّمة في مصاحبةٍ ودية مع الترجمة الكردية، موزّعة على مئة وثمان وتسعين صفحٍة.

 لغة الشاعر عالمه:

 تشغل اللغة في الإبداع الأدبي بوجهٍ عام وفي الشعر على وجهِ الخصوص مكانتها، لتكسب القصيده تفرّدها وتميزها عن باقي الأجناس الأدبية، كونها الأداة الأساسية في التشكيل الفني للقصيدة على اختلاف أشكالها والوجوه المعبرة عن هويتها، في حين ليس من الممكن النأي بالقول هنا سوى أنها "النصوص ــ القصائد" بذاتها تنتمي إلى لغة الشاعر الشعرية، فصارت مهد الشعر أولاً وأخيراً بغض النظر عن باقي عناصرها التي ساهمت في تشكيل الهوية_جوهر النص الشعري.

وهنا أقدم هذه القراءة باعترافٍ مني وأنا أتلذذ بمقاطع الديوان وأتعذب في سبر أغواره. إنَّ النقد والعمل في مجموعة النصوص لا يقل لهفةً عن كتابة الشعر والرواية والقصة، مثلها تماماً يحتاج إلى جرعةٍ من الإبداع والجمالية؛ لذلك ارتأيت التعمق في منعطفات الديوان والبحث في جماليات اللغة في القصائد اعتماداً على التحليل الوصفي ابتغاء الوصول إلى الدلالات والتقنيات الكامنة خلف تلك اللغة التي لابد من تناول مفهوم شعريتها لغةً واصطلاحاً وكيفية توظيف الشاعر للغات ومزجها في ديوانه واشتغاله على ثنائية اللغة التي لم يستطع الفكاك منها ثم التطرق إلى عتبة الديوان "اختلاف العنوان"

 لن يتغافل القارئ المتلهف لقراءة الشّعر عن اللغة السردية في كل قصيدة؛ إذ به وكأنه يلقى نفسه على عتبات روايةٍ مكثفة متقنة بسردٍ شعريّ وظف فيها الشاعر ضمائر: الغائب، المخاطب والمتكلم، توصيف الشخصيات، الأماكن وتجسيدها معتمداً لغة الحوار تارة " الحوار مع الداخلي/ الذات" المنولوج وتارةً أخرى الحوار الخارجي القائم على أنسنة الأشياء في مقاطع عدة ستُترك منها شذراتٍ لاحقاً.

في القراءة المشغول عليها لم يكن بين يدي النسخة الورقية من الديوان بعد؛ مما يخلق بعض الإرباك أثناء قراءة النسخة الإلكترونية.

ثنائية اللغة لدى الشاعر

 ممّا هو معروف عن الشاعر امتلاكه للغتين: لغةً ملكته ولم يملكها (العربية) التي اكتسبها منذ الطفولة حين الالتحاق بالمدرسة والمفروضة عليه من قبل السلطات آنذاك إذ هي اللغة الرسمية المحتكرة دون غيرها. واللغة المتجذّرة(الكردية) والتي ملكها هو دون أن تمتلكه، إلا أنها واحدة من المرتكزات التي استندت عليها القصائد والتي حلّت ضيفاً ليس بغريب على الديوان لتسكن فيه وتدوم مكوثها/إقامتها تلقائياً سواء برغبةٍ من كاتبها أو أنها انبثقت من تفكيره وارتباطه الروحي بأماكن لاتزال موطن طفولته ولغته رغم نموّ المسافات بينهما، لا يتجاوز تلك الحياة بأي شكل من الأشكال ولا يستطيع الفكاك منها(اللغة) فيقيم لها مأواها بلا تردد.

ـــ"لا يكفي

أن

أكتب لك

بمائة لغةٍ: أني مشتاقٌ……. مشتاقْ

لكن

كم

يكفي

عندما تبدأ الأغنية بـ:

Min béyriya te kirye " .

 رغم اتقان الشاعر وتحدثه بأكثر من لغة، ألا أنّ اللغات كلها لا تعبر عن مدى اشتياقه، لغته الكردية وحدها تكفي وتفي بالغرض.

ـــ "يا مسافر، يا محارب، يا سليل كوجرو: ارفع لفيالق السّراب ضجرك بياضاً.. للسأم شمساً مريضة، للعزلة طيّر طيوراً بلون الآجرّ؛ ولا تنس في رحيلك المقبرة الكائنة شرق القرية حيث يرقد: محمد العمات" .

في النداء ثمّة مرادفات أتت وكأنها تفك طلسماً توثق تأصل الروح الكردية للمجموعة: من سواه الكردي_الكوجري دائم السفر والترحال، من سواه يمكث في ميادين القتال باحثاً عن حريته ووطنه.

ـــ "... ها هي تبكي مدينةً منطفئةً تسكن أصابعها… تبكي وردةً أُبيحت في محطة تل زيوان المهجورة"

   في الشذرة أعلاه يشغل المكان "محطة تل زيوان" علامة فارقة تشغل ذهن الشاعر ترتبط بحدثٍ مأساوي "وردة أبيحت" تل زيوان القرية الكردية الراقدة في أقصى الشمال من الحدود الفاصلة بين منطقتين كرديتين.

ــ " وحدها أعشاب الدندفريش تمارس عويل المكان" .

ــ " أنا السليڤي سأريق الحكاية في شهقتي الأخيرة: إنها تنأى، مهاباد تنأى يا أبتِ، الغزال يتناءى، والعشق أنأى من وردة السراب"


ــ" لتأتي الإيزيديات من شنغال يدثرنني بفتك الغاية، ليأت الغزال… لتأتين الآشوريات…. وشاميرانه الكوجرية"

تم تهيكل الجمل السابقة ضمن مفهوم التجاور، حيث تتالت الدلالات لتكون مقطوعات متباينة شكلاً تضعها الفواصل في إطار التقارب روحاً" الدند فريش النبتة المنتشرة في الحقول موسم الحصاد في الجزيرة وعويل الريح فصل الخريف"

*السليفي الكردي لا ينال مراده أبداً. كل شيء ينأى عنه: شهقته، مهاباد، الغزال والعشق. كلها سراب لا يصلها.

*"يدثرنني بفتك الغاية" وكأن العشق هلاك الشاعر ومصابه،  فلا منقذ غير الأنثى الكردية.

 هل يمكن أن يكون الخيال الشّعري فلسفة...؟

   في إطار هذا السّؤال تبحث القراءة في العلاقة بين الفلسفة والشعر من خلال ما يمكن أن تقدمها القصيدة للفلسفة الأخلاقية وشكل العلاقة بين أسلوب الكتابة والمحتوى. الفلسفة لا تعد المرء للحياة الأخلاقية؛ لتوصيفها "بالتجريد والاستطراد والاعتماد على القواعد". أما الأدب برمته فقادرٌ على المساهمة في الفهم الأخلاقي والنقد وحده قادر على تحديد شكل تلك العلاقة وتصويرها كما ينبغي؛ في محاولةٍ لفرز وفحص الادعاءات الأخلاقية، في اعتقاد أن الأعمال الخيالية بعضها هي أيضاً أعمالٌ فلسفية

 ومما سلف ذكره فيما يتعلق بعلاقة أسلوب الكتابة بالمضمون في الشعر؛ أسلوب الكتابة ليس محايداً وشكلها يظهر تأثيره على المحتوى بالنقل، ولما لم تكن النصوص الفلسفية قادرة على فهم جوانب من الحياة البشرية بشكلٍ كافٍ أثناء الكتابة؛ فعلها كلٌّ من الكاتب والشاعر والفنان، أنهم قادرون على ذكر الحقائق عن الحياة البشرية التي نقلت من النثر الفلسفي بأسلوبٍ مغاير عبر وخلال العمل الإبداعي الذي يقدمه كلّ منهم. فالشاعر قادرٌ على إشراك القارئ في شكل من أشكال العمل الأخلاقي الذي لا يقوم به النص الفلسفي، القارئ اليقظ يدرك الحالة والظرف الموصوف لحياة نده الإنسان والنص المهتم بالأخلاق والنشاط العقلي والمتعاطف مع الآخر هو نصٌ قادر على امتلاك صفة الخلود. وهنا يمكن التأكيد على أن الشاعر كان قادراً على إثارة التفكير لدى القارئ المفكر:

"نافذةٌ

ما

مفتوحة في هذه المدينة البعيدة!

شاعرٌ

ما

يُنظرُ،

حتى آخر زرقةٍ من الموت يرى

من النافذة يتراءى للطفل الباكي:ثيرانٌ

تعبر السماء،

ثيرانٌ تجر رجلاً مقطوع الرأس: الرجل يترنم

بأغنيةٍ خشنة

شاعرٌ ما يتوسد حلماً أزرق"

*استدراج الخيال لتصوير المشهد، مشهد برمته مبني على محاكاة الخيال الأرسطي كقوة وطاقة ضرورية ليكتمل القول الشعري.

ــ "كنت تتكئ التردد… وكحكيمٍ بوذي تسدي غموض يديك للمسافرين إلى حقول الضوء…

 محتفظاً في الآن ذاته بنصائحك للعائدين من مرافئ الغبار"  

كاد الشاعر يركب بساط الخيال ويحلق في عالم الغموض بعيداً عن رقابة العقل وضبط القوة المتخيلة عند المتلقي، لولا أنه أعاد إدماجه (القارئ) في المشهد بشكلٍ متوازن" المسافرين إلى حقول الضوء ــ العائدين من مرافئ الغبار"

إنَّ اللغة الشعرية قد تعاني مشكلة في البحث عن مواصفات للحياة الطيبة؛ إن تفاقم فيها الغموض والفوضى وتعقيد الجوانب الأخلاقية للحياة الخيالية، فيبقى هدف الأدب منحنا فهماً للخير الإنساني والذي هو في النهاية (الخير) جزء من الفلسفة لذا فإن التمييز بين الفلسفة والشعر وارد ضمناً في القصائد وثمة اختيارٌ مدروس للكلمات وتكثيف في الأسلوب إلا أننا في النهاية لن نتعامل مع الديوان كعمل فلسفي لئلا نقلل من الاعتراف بقيمته الجمالية البحتة أو القضاء على الجاذبية العاطفية فيه

"لكَ أن تأتي

وتخطف في سرير الحلم فضائي:

نجمةٌ لي،

نجمتان لك،

وأخرى لهذا المدى

المتسكع على تخوم الصدى.  

  في الديوان، ثمة بصيص من عقل الفيلسوف ديكارت.. خياله ومشاعره، فالروح الداخلية للشاعر تضج بالكارثة التي تخلق منه مفكراً. إنها الروح تحيي النفس وسر الاتصال بالوجود "أنا شيء مفكّر.. إنه شيء يشكّك، ويفهم، ويؤكد، وينكر، ويرغب، ويرفض، ويسأل، ويجيب" في محاولة لفهم الذات وفهم الكون. ينقذ حياته بالسّؤال والفكر الإبداعي، هو ديكارتي يفكر، ثم يفكر، ثم يفكر.. ليعطي الأمل في الخلود الميتافيزيقي للغة، للشعر، للقصيدة:

ــ " لنجمةٍ تنفض يأسها في خطوط يديّ

لعاشقين يسافران في مشوار القبلة

لأشجارٍ سافرت في البعيد

غنّي يا مياه،

غنّي يا مياه،

غنّي"،  

 

ــ "الموت ينتظرنا… ليتني أموت دون ألمٍ؛ هكذا حدثنا أحد الأصدقاء عن أسطورة الموت،

ومضى،

هكذا حدثنا تحت شجرة نخيلٍ ذات مساءٍ من بنفسج،

ومضى…" .

 ــ " وأقول: لنشتعل ثلجاً؟

    بعد غدٍ قد أموت

   أو تقتنصك من منعطفِ الوقت.. يد أخرى؛

   بأية لغةٍ

   تريدينني أن أخترق صباحك، مساءك؛

   بأية لغةٍ تريدينني أن أقول لك: أحبك"

 

كثيراً ما نرى الشاعر يتلاعب بفكرة الحب ورمزيته والمراوغة للهروب بها ومنها من الموت نفسه، وتجنبه الحب أو تغربه فيه، إنما هو(الحب) الحياة، الحرية منطلقاً بذلك من مطالب العقل والقلب. إن السعي للحرية والحياة متأملاً في الحب واستنطاق كل الموجودات من حوله بخيال عاشقٍ أو مدّعٍ العشق؛ مبتغاه الخير وتلك هي حكمته. إلا أن انعكاس اليأس والخيبة تبدوان حالة حتمية، فلا لغته التي هي مصدر قوته وهو خالقها تسعفه ولا الريح التي يناشدها كذلك، فرموز السعادة  تسير في دروب التيه والضلال وهذا سرّ الغمام وسرّ الملحمة الأسطورية، هو لا يصل أبداً حيث يكون الحب والحظ والمحبوبة؛ لذلك هي لغته التي تخونه، تكشف المحنة الحقيقية وتصبح معارضاً نقيضاً تمنحه وتمنعه المشي والتحدث والقيام بعملٍ من شأنه أن يغير من معاناته أو قد يغير العالم، إلا أن العالم يبقى على حاله، عالمه هو، فلا يشعر بالنعيم ولا يبتهج، هو نفسه تتغير حياته الداخلية المضطربة وهذا الاضطراب ما هو إلا الشكل الرمزي المعني بربطه بالموجود وإسكانه الذكريات.

 ــ" لأجلك سأمجد أقصى الصدى بالبابونج والقرنفل

لا تغلقي المساء"

ــ" ها أنا أبكي:

الكلام الأخير

العصفور المغمور بالنشيد

بقايا وردةٍ

بقايا عطرك اللذيذ

على قميصي

أبكي ما ينساه الآخرون

في المنتزهات"

ــ " هي أغنيةٌ أخيرة:

حلمٌ يقود النهر

نحو

التلاشي" .

ــ "تمجد اليأس على مصاطب الفراغ ثمّ تلوك الحسرات ريثما تنبثق من خطوةٍ شاردةٍ، موسيقى جائعة و/أو ذئب وديعٌ أو عصفورٌ يزركش أفق الدهشة بالسراب"

ــ " أيها العشق لا تدعني وحيداً في غنائي،

فلا الريح تفسرني عندها ولا لغتي"


ــ" ياعشق، ياحبّ: قليلاً من النشيد ثم مزقني، وذرني عصفاً في عويلك، ياعشق"


 قد يحيل الشاعر نفسه مراتٍ ومرات لقسوة الاعتراف حين يؤكد أن الأشياء تؤنس وحدته؛ لتتمركز نقطة الاستحقاق بالسيادة ويصير تابعاً لكائناتٍ تخلق وجوداً/ كوناً لديه لحظة الشرود ووقت السكينة؛ يجسدها على هيئة كائنٍ عاقلٍ ناطق يحمّلها الأحزان والتساؤل وغربة الشعور، يسويها بالإنسان الواعي العاقل وقد يمنحها مرتبة تعلو على مرتبة الإنسان ذاته، كونها شريكة عزلته ووحدته ومصيره بالتواصل الكياني والوجودي والفلسفي بينه وبينها من دون لغةٍ؛ ليتدفق العشق بلغة هو يجاهر بها..

  ــ "منذ البارحة جدران الغرفة أيضاً،

مضت مسافره دون وداع "

وها أنا بلاد انتظرك، مليون باب انبثق

 من بين أصابعي وأعشاب النافذة

 ألف قيثارة تدعوك للرقص والغناء

والحديقة الغامضة مضت ظلالها منذ عام

أما فنجان القهوة فلا تسألي، حيث من غيابٍ

ــ يمسك بأصابعي… ويسألني عن شفتيك المفقودتين..

دعي شعرك يفسر طيش الهواء

ــ وجدارٌ يقتات أعشاب القلق من انتظارنا…

سيغلق القمر نوافذه

هكذا

الأشجار تأسرني

ويفترسك الغياب

 وردة الغمام أو النشيد الأخير لسيامند السليڤي:

 في محاولة ناجعة من الشاعر ربط العبارتين المتناقضتين في التعبير اللغوي بحرف العطف(أو)؛ ما هو سوى دلالة وإعراض بتبيان زمن توثيق المجموعة بالعنوان المذكور. إن العنوان، العتبة الأولى التي يمر بها القارئ للوصول إلى المتن والإشارة الأولى التي توجهه نحو وجهةٍ معينة وتلزمه بمحاورتها والإصغاء لخطابها. ولمّا للعنونة "طاقةٌ فنية جمالية  تنتهج حقل المراوغة والاختلاف والإرجاء في استدراج مُحاورها وإكراهه على الرضوخ لفتنتها الآخذة كما وللعنوان تلك القوة الاختصارية والمتضمنة سرعة استجابة المتلقي دون منحه زمناً كافياً للتفكير ومنحه الزخم المعرفي لإنماء وعي القارئ ودعم مكتسباته الثقافية". 

وقد يأتي اختلاف العنوان في إشارة لتجاوز الوظيفة الواحدة التي تشغلها المجموعة، رغم مداخلة الكاتب مابين العنوان والفهرس والمقدمة على شكل تنويه: (ثمّة سردية أو حكاية ملفتة للانتباه تعكس العلاقة الغريبة بين نصوص " وردة الغمام أو النشيد الأخير لسيامند السليڤي". إنّ هذه الوظيفة الإغرائية حقيقةً ارتبطت بمعظم العناوين الفرعية للمجموعة الشّعرية، حتى كاد منها يتلاشى في الغموض ويطمس معلمها بعيداً عمّا رتّل تحتها. إلا أنه لا يمكن الإنكار أن كل عنوان مصنوع بشكلٍ واعٍ وله أهدافه الجمالية وإن كانت مستقلة أو يصعب على المتلقي استجلاء دلالته، العنوان المستحوذ على مقدمة فضاء المجموعة لتليه العناوين الفرعية معتمداً بذلك على استقلاليته الذاتية التي منحته حق الوجود.

"وردة الغمام" التي اتخذت وظيفةً إغوائية، إغواء القارئ وتورطه والتي هي بالأصل عنوانٌ لقصيدة فرعية. الوردة، التي تحمل سمة ودلالة واحدة من حيث الشكل. لكانت تحمل دلالات مختلفة لو لم تُلحق باسم آخر من شأنه تأطيرها ضمن المعنى الواحد والجنس الواحد لشيء موجود يحمل صفات معينة" الألوان الأسماء اللامتناهية، اختلاف الرائحة ووو..."

ما اتسم باختلاف الدلالة مفردة "الغمام" الغمام بحسب تفسير ابن كثير، جمع غمامة، يغم السماء (يواريها ويسترها) وهو السحاب الأبيض، ظللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس. تنوعت التفسيرات المتعلقة بمعنى كلمة "الغمام" لكن اتفق جمعٌ على أنها تعني التغطية، الغمام يغطّي ويحجب السّماء عن الناظرين عندما يمرُّ بها وقد يعدّ ظاهرة لا سيما في فصل الشتاء، وذهبت بعض التفسيرات إلى اعتباره من أهوال يوم القيامة.

وبالعودة إلى القصيدة المعنونة بـ"وردة الغمام" لن يتفاجئ القارئ المتعمّق في قراءتها من هول وفوضى واضطراب الحدث.. التي من شأنها أن تشغل مرحلة ما من عمر الشاعر. لكن لم ينأى العنوان "وردة الغمام" برمزيته عن العنوان التالي لحرف العطف "أو" والذي اتخذ وظيفة إيحائية، استعان فيها الشاعر باسم بطل ملحمة " سيامند وخجي" الملحمة الكردية الشفاهية…وكما هو واردٌ في التاريخ، ملاحم العشق إنما اتسمت بالخلود والأسطورة. وانتهت بالمأساة بموت أحد البطلين أو الاثنين معاً.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).