خلال تجربة القراءة الفعلية لديّ، والتي امتدت لفترة تناهز 23 سنة، قرأت مختلف انماط الكتابة الروائية والشعرية والفلسفية والعلمية المتنوعة والتاريخية، اكتشفت العديد من المسارات أو انماط الكتابة التي تمتلك خصوصية واضحة ومعايير مضبوطة تخصّ هذا الكاتب  وذاك، وبالرغم من اختلافها بعثت عشرات الأسئلة وأثارت تخيلاتي، ما السّر في ذلك، أنها المصداقية في الطرح برأيي خصوصا فيما يتعلق بمجال الكتابة الروائية وهو المجال الوحيد الذي يمكنني ابداء رأي فيه، لأنني اظن أنه قد تشكلت لدي نظرة حول هذا الفن، ولو كانت نظرة شبه واضحة، وأعلم أن تلك النظرة لن تجلى ابدا، ستبقى تتأرجح بين الصحو والغمام على الدوام، وهو أمر بت مقتنع بصحته، إذ لابد أن يبقى هذا الجدال قائما، لابد أن يبقى النور والظلام متجاورين، عليّ أن لا اتحول الى كائن له معتقد ثابت وصلب منيع على التغيير. هذا المعتقد الذي اتحدث عنه والذي تشكل نتيجة ارتباطي العاطفي والفكري مع كتابات مختلفة عن بعضها من حيث اسلوب الكتابة أو طريقة معالجة القضايا المطروحة أو تفضيل بعضها على بعضها الآخر، فأحيانا تجد كاتبين يتعاملان من التاريخ من منظورين مختلفين، لكنهما صادقان في طرحهما، يجلبان ما استطاعا إليه سبيلا من الحجج والمبررات التي بها يمهدان الطريق لفكرتهما، والحب كذلك لا يتماثل عند خوسيه ساراماغو ونجيب محفوظ، ولا يستوي المجتمع عند هرمان هيسه وغابرييل غارسيا ماركيز، والماغوط مختلف لدرجة كبيرة عن غيره، الانجذاب لهذه الطائفة الفسيفسائية من الكتاب بمختلف توجهاتهم هي الوصفة المثالية كي نكسر بها الحواجز ونمزق الحبال التي تربطنا الى شيء بعينيه، تلك هي وصفتي كي يتحرر الانسان من داخله، من ثم يحرر العالم أجمع من سطوة التوجهات والاتجاهات الجامدة على مختلف الاصعدة القومية والدينية والمناطقية...إلخ.

بدأت تجربتي مع القراءة بداية من مكتبة والدي المنزلية، على شكل تمعن في اغلفة الكتب التي كان ممنوع علينا المساس بها، وكانت المكتبة الصغيرة ذات الواجهة الزجاجية مغلقة بقفل سحّاب لا يملك المفتاح غير والدي، وكان المفتاح يصاحب علاقة مفاتيحه على الدوام.  نعم بدأت تجربة القراءة لديّ دون أن اقرأ حرفا واحدا، بل اكتفيت بالنظر الى الكتب واغلفتها، وإلى والدي بينما يقرأ في كتاب، وعلمت لاحقا بعد ثلاث عقود من هذه التجربة أن تلك القراءة الصامتة التي تغيب عنها المفردات انما اصعب واعمق أنواع القراءات على الاطلاق.

كانت المكتبة تضم طائفة من الكتب ذي أغلفة حمراء سميكة، ارهقت واتبعت ساعداي الصغيرين حينها، وذاك اللون الأحمر طبع في مخيلتي إلى ان وجدت ذات اللون بعد سنوات طويلة على النجمة الحمراء المرسومة على قبعة تشي غيفارا، وكذلك لفت انتباهي صورة الرأس المطبوعة على الأغلفة: رجل اصلع من جبهته الى قفا رأسه، ويوجد القليل من الشعر على صدغيه، لكن ما شدّ انتباهي بالفعل هو لحية العنزة على وجهه، كانت غريبة وجذابة بذات الوقت، وازداد تعلقي بحلية العنزة هذه بعدما رأيت صورة الكاتب انطون تشيخوف على مجموعات القصصة الثلاث التي جلبها أخي وضمها الى المكتبة الى جنب غيرها من الروايات الروسية المترجمة، بصورة اعتقدت لاحقا أننا ربما ننتمي على العرق السلافي، وإلا لما هذا التهافت على الكتب والادب الروسي، لاحقا أدركت أنني انتمي الى كل الاعراق عندما استغرقت في قراءة آداب وتواريخ وأساطير آله الشعوب.

قرأت أول ما قرأت من المكتبة رواية "  في دروب الشمس"، وتقريبا لا أتذكر اسم الكاتب، ولا شيئا من  القصة ولا اسم الشخصيات، وعلق في ذاكرتي مشهد واحد لا غير: ناقة جائعة وسط صحاري القوقاز، ليس بها طاقة لتسير نحو كومة الشوكيات القريبة منها، تظل عيناها يتحلقان حول كتلة اشواء يتلاعب الريح بها، عسى أن تقترب منها، فتلتهمها. هذا هو المشهد الذي ترك أثرا بارزا فيّ شخصيا، وقد تكون بذرة الخيال التي ينعقد منها جميع خيالاتي، ربما ذلك صحيح، فكل واحد منها يتبلور حول حدث أو مقولة ما، قد لا ندركها فعلا، لكنها تقوم بدورها في حيواتنا باستمرار مع كل فعل أو قرار نقوم به، وهذا شيء آخر اكسبتي إياه المعرفة عموما، وهو البحث عن البلورة الأولى في داخلي،  كيف تشكلت ومتى وماذا كان السبب! وأظن أن من يتوغل عميقا في هذا الشأن سيكتشف أمورا مذهلة ويتمزق الحجاب بينه وبين الكون، أو ربما يتوه كليّا عن نفسه وعن العالم، لكلا المسارين ذات الاحتمالية.

وتمثّلت الصدمة التالية ، والتي لم تزل تقوم بمفعولها الى لحظة كتابة هذه الاسطر، في قراءة كتيب مبسط " جدا" حول النظرية النسبية. كان الكتيب في مكتبة المنزل أيضا، حملته واخذت اتمعن في صورة العالم ألبرت آينشتين، جذبتي كل تفاصيله؛ شعره، عيناه الصغيرتان، انفه الكبير، شعره المنفوش، تجاعيد وجهه، وتمعنت في غيرها من التفاصيل حد الشرود فيها، وقمت بعد سنوات من هذه الحادثة برسم بورتريه له بقلم الرصاص، فقال لي أخي الرّسام: واضح لي أنك اجدّت رسم تفاصيل وجهه، ولو أنك لست برسام، حبّك له حرّك القلم في يدك. قرأت الكتيب وكنت في الصف السابع الاعدادي، أي كنت في الثالثة عشر من عمري، اجهل ابسط قوانين الفيزياء، لكني تجاهلت ذلك وجهدت كي أفهم لما يكون المنزل على يميني عندما اتجه من الشمال الى الجنوب، ولما يكون على يساري عندما آخذ الاتجاه المعاكس، واستعصب علي فهم الامر، أو لما التركيز على هذا التفصيلة التي جربتها عمليا في شارع منزلها، توجهت من منزل الخال سعيد باتجاه الطرف الآخر من الشارع فكان منزلنا على يميني، سرت من ذاك الطرف نحو المنزل فأصبح على يساري..لم أفهم الغاية من الامر، فأصابتني دودة أرق المعرفة والتي أخذت تكبر وتكبر منذ ذاك الحين. نصحني أخي عندما وجدني شاردا في الكتيب ذات يوم، بضرورة العودة الى الكتيب عندما ابلغ الصف الثاني ثانوي، وكذلك فعلا، من ثم اكملت عليها مزيدا من القراءة حول النظرية النسبية وصولا الى تاريخ مختصر الزمن للعالم الفذ ستيف هوكينغ.

وتمثّل المفترق المعرفي الآخر الذي حدد توجهاتي ونظرتي الى الحياة والى نفسي، في مجلة رأيتها أول مرة من خلف زجاج واجهة مكتبة الحرية في قامشلي، شدّتني صورة انفجار نجمي على الغلاف، وعندما سألت عن سعر المجلة اصابتني صدمة اخرى، لكنني لم اتنازل، جمعت المبلغ المطلوب في أيام وعدت لشراء المجلة، كانت النسخة العربية من مجلة العلوم والصادرة في دولة الكويت، من ثم بدأت مرحلة جديدة من حياتي المعرفية وكنت في الصف التاسع الاعدادي، قرأت في المقالات التي تنوعت بين الفلك والطب والطبيعة، وتقريبا لم أفهم كلمة واحدة مما كتب، لكني ظللت اقرأ فيها واعيد قراءتها مرارا وتكرارا، فقادتني الى سلسلة عالم المعرفة، واستعرت اول كتاب من المركز الثقافي في المدينة، كان الكتاب حول نشأة الأرض، وكنت في الصف الأول الثانوي، علمت من ذاك الكتاب ان بهاء هذه الطبيعة ما كان ليكون لولا تلك الانفجارات الرهيبة في فجر تشكل الكرة الأرضية، علمت ان الحياة تختصر في ذرتين اثنتين هما الهيدروجين والكربون، وعلمت اكثر من ذلك مع مرور الوقت، علمت أننا وأن العالم ليس سوى ذرات وانفجارات وسدم لا قرار لها، علمت أن النجوم التي يتغنى بها الشعراء، وصيغت حولها وبها المجازات والاستعارات ليست سوى كتل متفجرة على الدوام، علمت أن النور قد يصل متأخرا، لكنه يصل دوما، وعلمت أن ظلمة الكون اشد كثافة من الضوء المبعثر فيها هنا وهنا، وعلمت أن الثقوب السوداء تلك الآلهة الفلكية المدمرة لكل شيء، إنما تكسب الكون طاقة الاستمرار، فبدونها قد يتلاشى الكون نهائيا، علمت أن اينشتاين اكتشف هول تلك الثقوب قبل اكتشاف تلسكوب هابل، وعلمت أنه سخر من نفسه وكتب على هامش الورقة البحثية والتي اودعها خزانته: قد تكون هذه الفكرة أكبر خزعبلات حياتي، وحين اكتشف البحث علّقت نجمة أخرى الى شعر من شعرات رأسه الزاخرة بالنجوم والفوتونات.

أما في الصف الثالث ثانوي، فقد كنت قد توغلت في قراءة المقالات والدراسات الفلكية، واصبحت من الرواد الدائمين لمجلة العلوم وكتاب عالم المعرفة واستعرت مزيدا من الكتب من المركز الثقافي، وكنت قد قرأت المجموعات القصصية الثلاث لانطون تشيخوف، وفهمت لهذه الدرجة أو تلك ذاك الكتيب الذي خلق فيّ رهبة من المعرفة عموما، فاتذكره كلما احسست انني امتلك قدرا كافيا من العلم والمعرفة في مجال ما، وتكون النتجية مزيدا من التواضع أمام المعرفة والعلم، ومزيد من السعي والفضول.

في حصة من حصص المدرسة، وكانت حصة الكيمياء، كان معلّمنا يفسح لنا وقتا في آخر الحصة للاسئلة المفتوحة سواء تعلق بالمنهاج أو بشيء آخر علميا كان أم شخصيا، حينها سألته حول معلومة كنت قد قرأتها في احدى مقالات مجلة العلوم، ولم افهم أو استوعب المعلومة تماما، سألته عن "البوزيترون"، فاندهش ونظر فيّ مليّا من ثم نظر في رفاقي وعاد ونظر إليّ وبقي صامتا لدقيقة أو أكثر قبل أن يقول: يا ابني، فكر شي يوم تطلع على الشمس. قبضت على الجملة بكياني، ظلت تؤثر فيني ولو أنّي اكسبتها عشرات الدلالات المختلفة سنة بعد أخرى، الى أن انتهيت الى دلالة واحدة وهي أن طريق المعرفة محفوف بالمخاطر، ستتوه بداية، سينير الضوء دربك حينا، وتسير في العتمة أحايننا، والنهاية، نهاية كل شيء هو الانشطار الى اصغر كتلة عرفتها الحياة وهي الفوتون الضوئي. يا له هذا البوزيترون، أنه الكترون يملك شحنة ايجابية، ما ان يلتقي بالالكترون سلبي الطاقة، يحدث نفي للمادة وتتحول الى طاقة خالصة، تماما مثلما اشار افلاطون، الروح تبحث عن قرينه وفي لحظة الالتقاء تكتمل الغاية.

من ثم تراكمت الكتب فوق رفوف مكتبتي وجعلت الشخصيات والاحداث والتواريخ تسكن طيات رأسي، فتحولت بها الى مئة شخصية وشخصية، وعشت احداثا قديمة، وأخرى جرت في مناطق نائية قد لا أراها ما حييت، اخذت انشطر تدريجيا، أذوب واتحول الى فوتونات أنير بها مسارا ضئيلا جدا في هذه العتمة الواسعة.

ليس من نور كل ما نقرأ، ولا تنير المعرفة دروبنا على الدوام، أحيانا تجلب الظلمة والعتمة فتزيح بها الضوء من حولك، قد يتحول بها الوجود إلى كتلة مصمتة غير شفيفة. لا تقربنا المعرفة من واقعنا دوما، لا بل تبعدنا عنه في كثير من الاحايين، لا تمنحنا وسعة في الخيال كي نفهم ونستوعب واقعنا الحالي، بل تمنحنها قدرة خلق عوالم موازية، تزيح وجودنا قرونا الى الامام أو الخلف على خط الزمن، نعيش في أزمنة مختلفة وأماكن متنوعة، تُمزّق المعرفة حدودنا الشخصية بشكل نصبح معه اقرب الى سديم زاخر بالانفجارات المهولة والمدمرة، قد تنج في النهاية نجمة مضيئة، ومحظوظ هو أو هي إن تشكلت النجمة تلك في رأسه، لأن الكثيرين منّا يتوهون في السديم وتظل الانفجارات قائمة على الدوام دون الوصول الى الهدف المرجو، ومنّا من يستعير نجوما تشكلت في رؤوس غيرنا فنتباهى بها على أنها لنا، بمجرد تحولنا الى ابواق تنشد لهذه النجمة أو تلك.

الهدف، هذه المفردة اليتيمة التي تضم بين طياتها تاريخ العالم وتاريخ الانسان، ما الهدف من تشكل العالم، ما هدف الانسان، ما الهدف من أي شيء؟ انه اصل الفلسفة واصل الاديان جميعا، لكني توصلت من خلال القراءة الى أنه لا يوجد هدف نهائي لأي شيء، تتشكل الاهدف على التوالي مع كل خطوة، وقد تتغير مع تغيير المسار أو وتيرة السير على الطريق، الأهداف مجّزّأة متبدلة تبدل الفصول، متغيرة تغيير شكل الجزيئات مع كل تفاعل جديد.

ابحث عن البلورة الأولى في داخلك، تلك البلورة الأم التي تشكلت من حولها كل البلورات في حياتك!

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).