في البدء، يمكن طرح السؤال التالي: ماذا يفعل عجوز "وهو كاتب هنا، كما سنعرف لاحقاً" في الفردوس؟ وهل هناك عجوز في الفردوس، كما نعلَم بذلك من خلال ميثولوجيات الفردوس، أو ما يتردد حوله في النصوص الدينية ذات العلاقة ، وفي مغامرة الرواية من وعود مسمَّاة؟

ربما من هنا، يوسّع السؤال مفهومه المعرفي، ويطرح شبكة دلالاته الكبرى لحيازة ما يمكن احتواؤه سعياً إلى مكاشفة تلك العناصر المتفاعلة مع بعضها بعضاً، وهي تضيء روايتها المستقبلية، وأقول المستقبلية، لأن الرواية وإن كتِبت في زمن يؤرّخ له، حين نقبل على قراءتها، فهي في جوهرها تُكتَب بذاكرة مستقبلية، وفي ضوء ما هو مزكّى ومنتقىً من مشاعر وانفعالات وهواجس وتطلعات وتصورات تمارس تأثيرها في بنية النص المكتوب روائياً وغيره.

بالتوازي مع مفهوم " البدء المفترض " ماالذي يصل الكاتب الروائي بعالم شخصياته الأكثر من كونها ورقية، حيث الورق أحادي الوجه، وهي هنا تتخذه نقطة استناد عريضة للتحرك في اتجاهات مختلفة، وبمقدار ما تمثّل عوالم مختلفة، وقد تحيل كاتبها إلى متوسل إليها ليعرَف بها؟

تلك هي سدادة الزجاجة، في لعبة الكاتب، جهة رهانه في القفز على هاوية متخيله المتداخلة مع الواقع ، وما يكونه الواقع في تنويعاته، في مظاهره وخفاياه!

وربما من هنا، ولهذا السبب، يمكن الحديث عما يخص لغة الرواية موضوع البحث، وكيفية انبنائها في لعبة تخيلية، وهي لا تنفصل عما هو مأخوذ به وفق تركيبة فنية معينة، بغية إطلاقها كياناً رمزياً متكامل السمات، وبالتالي يجاز لها أن تُنسَب إلى الآتي، لأن ليس من قيمة رمزية يجري تسجيلها ومنحها موقعاً أرشيفياً، لأي عمل أدب، إن لم يتحدد لها مسار مستقبلي.

وفي رواية الكاتب والروائي الكردي جان دوست، وصاحب قائمة من الروايات التي أخذت موقعها الفني والاعتباري المستقبلي، ولها تنويع في موضوعاتها، وللشأن الكردي مكانته المعروفة، أو تداعياته، جهة الكتابة باللغة الكردية الأم إجمالاً، وبعد ذلك ترجمتها من خلاله إلى العربية، وما يعرّف به منوّعاً في موضوعاته والباحث عن الكتابة الانعطافية حباً بالمختلف.

يعني ذلك أن للكاتب تجربته اللافتة في هذا المضمار، فهو من مواليد " 1966 " وقائمة رواياته المنتشرة تقف على خلفية من هذا العمل شاهدة على التجربة المذكورة والآخذة في الحسبان  لحظة قراءة روايته التي نحاول " امتحانها " وهي تمتمحننا في الوقت نفسه.

لهذا، فإننا حين نأتي على  ذكر هذه الروايات وهي أكثر من دزينة(  ميرنامه- مهاباد- دم على المئذنة- عشيق المترجم-مارتن السعيد- ثلاث خطوات نحو المشنقة-كوباني- ممر آمن-مخطوط بطرسبورغ- إنهم ينتظرون الفجر...إلخ)، ففي ذلك: من ناحية ما يبقينا متروّين في عملية القراءة، حيث إن هذه الروايات تمثل بُعداً  معرفياً وإثراء في فعل السرد وشهادة اعتبار، في تناول أي جانب منها، أو في القراءة لها في جوانب عدة، ومن ناحية أخرى، تدفع بنا إلى مكاشفة مغزى السرد القائم في القرواية، وكيف يؤدي عمله، والمسار المختلف فيه، تأكيداً على المستجد فيه.

إن هذه الرواية التي نحن بصددها انعطافية في صوغ وقائعها، وقبل ذلك، في حيازة ذلك العالم المختلَف عليه، لأنها، من ناحية تستمد مشروعية كونها رواية انطلاقاً من مؤثرات وشخصيات روائية تتوزع في جهات جغرافية شتى، وأزمنة مختلفة ومتباعدة هنا وهناك، ويجري تصريفها وقد جرى التعريف بها، وفق معايير ذوقية لكاتبها، وأعني برواية: اللاهي "فردوس الكاتب العجوز" "1" وما في العنوان من قوة إيحاء، ودفع بالمتخيل إلى مساءلة ما ينطوي عليه العنوان الرئيس، العنوان العابث، والقائم على المفارقة كذلك، لحظة التذكير بصفة "العجوز" وهي من ناحية أخرى، تكون أرضية: تنتسب إلينا، بمقدار ما ننتسب إليها، وما في ذلك من شعور بمسئولية القراءة وأخلاقيتها، وخاصية الانتساب في عملية المكون الرمزي للرواية، وفي الوقت نفسه، ما يمكن أن يحدث عند ربطه بالفردوس، وإنما ما يحاول القيام به، بوصفه مطبّق مقاييس خاصة على شخصياته المأخوذة عن مجموعة روايات عالمية، وليوجه لعبته ذات المكونات المتفاعلة مع بعضها بعضاً: اجتماعية، تاريخية، سياسية، تربوية، نفسية...إلخ وببصمته، وما يترتب على هذا الخيار الموجه من مأساة في النهاية ودلالاتها.

تُرى ماالذي أراد أن يصوغه في عالم متخيله الفني، وهو يقوم بهذا الإجراء؟ وأي سرد توخاه كي يسهم في بناء عالم روايته، وإلى أي مدى أسلس القياد الفني وبمهارة نافذة لسرده وهو يراعي جانب التنويع في انتماءات شخصياته المقتبسة من أعمال روائيين عالميين، وكيف أمكن للسرد أن يكون معينه في المزج بين ما هو استرسالي تخيلي، وما هو تجاذبي حواري وجدالي، وما في هذا الإسهام الفني من لدن الكاتب من محذور يخص جواز التداخل بين ما يعتبَر سرداً، ولا يخفي وجهه الخطابي، وما يكون خطاباً في القول الممثّل للكاتب أو لشخصية ما أو أكثر له، وهو يرينا واقعاً معيشاً، تعيشه بصفة ما، أو ما يشكل كلاماً، وليس سرداً، بمفهومه الفني، وما يموقع الكاتب في الزمان والمكان، وهو في زحمة أهواء شخصياته أو تفاعلاتها النصية ومسئوليته عنها. وقولة " أراد " تقابل المكتوب، وليس المخفي في سريرة الروائي.

نقاط، هي جدران متحركة لبناء فني لا يستهان بأمره تضاريسياً، وهو واسع في مداه وتبعاته، يحفز على المعايشة والمساءلة والحذر مع كل عملية تقدم في القراءة.

اللاهي والجدّية المعطوفة على الاسم:

ماالذي جعل الكاتب، ومن خلال عنوان روايته في وضعية اللاهي، في مضمار" إلهيَّة " روائية لا أراها صيغة تجريدية لمتخيل نفسي، تفصله عن واقعة لها اعتبارها الزماني- المكاني؟

وماالذي حدَّدها بعنوان فرعي ويتقدم وصفياً" فردوس الكاتب العجوز " وبـ"أل التعريف" المعلوم في هذه الحالة، وما يلقي بظلال سيميائية أكثر مساحة امتداد قيمية، وحضور جمالي.

كما نوَّهت، ثمة ما يراه في محيطه وأبعد، في عالم اليوم، وما يشكل إضافة في اختبار الذات الكاتبة لديه وقابليته لأن تنفتح على الجاري في جهات شتى، وكيفية الإقامة في هذه الذات، ليستطيع الكتابة، ومضي ذلك الزمن الذي يتطلب منه التفاعل مع عالمه الجديد حتى الانتهاء منه.

من المؤكد أن أي كتابة هي لعبة، ولكنها جدّية، والأكثر وجوباً في تعزيز مقام هذه الجدّية، أنه إذا كان الكاتب الروائي هنا كاتباً، بوصفه الاسم الحامل لنصه المعلوم بكل تهيؤاته العتباتية، وخاصية التناص، كما سنعرف ذلك لاحقاً، فهو مكتوب، بطريقة ما، أي لا ينفصل في حضوره الحي داخل نسيج الرواية: رؤية، وفكرة، وانتثار معان، وهو ما يشكّل عنصراً رئيساً ومركَّباً في عملية القراءة، وما تمضي به بالنسبة إلينا إلى داخل نصه وانفتاحه الدلالي على الخارج.

هو نفسه من يشير إلى ذلك، من خلال شارة استهلالية، يقتبسها من العزيز عليه، ذلك الشاعر الكردي الأثير: أحمد خاني:

هذه الدنيا تشبه لعبة " خيال الظل" وما نحن إلا شخوصها التي

يضعها المخايِل وراء الستارة ويُسند إليها الأدوار خيراً وشراً "2"

كما لو أن لأحمد خاني إسهاماً، أو يداً نافذة بالمقتبس من عمله المذكور. وعراقة هذا الفعل. وهي إشارة إلى أن لعبة " خيال الظل " تنسّب إليها كتّاباً ذوي أصول مختلفة، وبأصوات مختلفة.

إنما ماذا في الجعبة المتخيلة للكاتب؟

هناك فعل قرائي، وحصاد قراءة ومردود سردي في المحصّلة. ومن خلال ملاحظة من الكاتب:

( في هذه الرواية تعالقٌ أو اشتباك نصّي، وهي لعبة سردية مألوفة تتحدث عن شخصيات انتزعها " الكاتب العجوز " من روايات عدة. هي شخصيات حقيقية، ليس بمعنى أنها عاشت بالفعل على الأرض، لكنها عاشت في الروايات وخلقها خيال الكاتب. يصل التعالق النصي هنا إلى حد التطابق مع ما ورد في الروايات الأصل من عبارات جاءت على لسان الشخصيات أو  الراوي العليم.... وفي جميع الأحوال، فلن يخفى ذلك على النقاد وكذلك لن يخفى على القرّاء الذين راهن الكاتب العجوز أصلاً على ذكائهم وذاكرتهم القرائية القوية. ص 9 .).

لا يخفي هذا المأتي على ذكره من فعل مجاهدة، ومن مناورة، وحيلة اقتباسية لها سجلّها الوصفي كما هو معلوم: التعالق تشارك وسياسة معتمدة ووصافة في النوعية، والتعالق متداخل مع مفهوم" الاشتباك النصي " كما لو أنه في وضعية المحارب، وبمتخيله، والشعور المرفق بذلك، أما من جهة اللعبة السردية المألوفة، فحسبي القول أنها في مألوفيتها لا تعني فعل التطابق أو التلبس بالآخر، والتماهي معه، دون ذلك تفقد الرواية جدّيتها في تأكيد  تمايز الاسم، ليكون فعل" الانتزاع " والذي يرتبط بمجاهدة التعالق، ومكابدة " الاشتباك " تردَّد صدى وفتْح حساب شخصي لمعرفة المسافة الفاصلة بين ما جاء به كإضافة فنية، وما يبقيه في إطار متني لما تعرَف به جملة الروايات التي انشغل بقراءتها وأشركها، عبر شخصيات مأخوذة بمعايير ذائقته في صوغ عالم روايته، ومفهوم " التطابق " ومدى أعلميته في المقايسة وفي واقع مختلف، وما يصله بالمذكّر فيه، وهو كذلك: جهة النقاد ما أن يقبلوا على قراءة نصه، وكذلك القرّاء والحديث عن ذكائهم وذاكرتهم القرائية، وما في ذلك من تمييز نوعي جهة " قارئه النموجي " طبعاً.

ثمة ما يدفع بنا إلى جانب من هذا الحضور وكيفية التعرف إليه، ومن قبل بعض متابعيه أو نقاده وهم في الوقت نفسه قرّاء من نوعية معينة:

( ". ذهب الأرجنتيني ألبيرتو مانغويل في مشروعه الموسوعاتي حول عالم القراءة إلى تقصي شؤونها في مؤلفه "وحوش خرافيون: دراكولا، أليس، سوبرمان، وأصدقاء أدب آخرون"، والذي تُرجم للعربية تحت عنوان "شخصيات مذهلة من عالم الأدب"، وهو كتاب تناول فيه شخصيات تخييلية بعضها كان شهيراً، وبعضها ظلّ في الهامش، وقدم في روايته "ستيفنسن تحت أشجار النخيل" مقاربةً روائية معاصرة لعالم كاتب الأطفال الشهير روبرت لويس ستيفنسن، وغير بعيد عنه كتب البرتغالي أفونسو كروش روايته "الكتب التي ابتلعت والدي" ليستدعي فيها شخصياتْ وعوالمَ روائيةً عالميةً شهيرة.

يلعب الروائي السوري الكردي جان دوست في روايته "اللاهي" ذات اللعبة انطلاقاً من عوالم شبه ديستوبية تحت فرضية تخييلية. ماذا لو اجتمعت كل تلك الشخصيات في مكان واحد كما تجتمع في رأس القراء؟)" 3 "

وهو ما يسهم به الروائي، كما هو الوارد هنا تعريفاً وتوصيفاً للنص وفعله ونباهة كتابته.

وربما أمكن التذكير بتجربة لها موقعها في هذا الإطار، وأعني بها رواية حنا مينه " النجوم تحاكم القمر ) التي تمثّل رافداً حياً في إشهار هذه الرغبة النفسية المتخيلة في كتابة رواية كهذه.

حين يقول مينه في إطار ملاحظة، تحت اسم "إيضاح"

هذه رواية ومسرحية معاً، فمن شاء أن يقرأها رواية ففي وسعه ذلك، ومن شاء أن يقرأها مسرحية ففي ميسوره أن يفعل، ومشكور على الحالين.

إن التجريب، مع الابتكار، ليس صرحة قصدية بالنسبة إلي، بل هو هدف أسعى إليه مجتهداً، وقد تعدَّد، وتنوع، في رواياتي العشرين التي كتبتها حتى الآن، ويمكن الرجوع إليها، أو إلى بعضها، خاصة الذي صدر في السنوات الأخيرة، ليتأكد مما قلته في مناسبات سابقة، عن تقلص مساحة السرد في رواياتي، ليتسع مجالها للحوار الذي أرى فيه تعبيراً أعمق عن الذات،... كل ما أريد التأكيد، هو أن هذه المحاكمة الاستثنائية، التي تنظر في قضية استثنائية، تخرج، كثيراً أو قليلاً، عن أصول المحاكمات، ولا تتقيد بأعرافها..) " 4 "

يبقى الفرق معلوماً، وهو يتمثل في كون حنا مينه يقيم علاقاته التخيلية مع شخوص روايات له، ويكون هو المرجع: الخصم والحكم، إن جاز التعبير، فثمة صنعة داخلية لديه، وهناك، تكون الصنعة منفتحة على الخارج، جهة روايات تنتمي إلى ثقافات وتجارب متباينة زماناً ومكاناً.

إنما ماذا عن هذا النوع من التعامل مع شخصيات، ومقام السرد والمختلف والمتشابه فيه؟

لن يكون دوست الأول والأخير في مثل هذه العلاقة، فهي محكومة بخاصيتها الإنسانية وفعل الثقافة بمختلف أداءاتها المعرفية والأدبية، وطابع التشارك في المثار نفسياً وفكرياً كذلك.

يحضر هنا، قول أوكتافيو باث، وهو( التكرار مبدأ أساسي من مبادىء الشعر.) " 5 " وما يشير إليه هارولد بلوم في بداية كتاب شهير له، وهو (يؤمن شللي بأن كل الشعراء عبر كل العصور يشتركون في كتابة قصيدة واحدة عظيمة هي دوماً في طور النمو.) " 6 "

وما لفت انتباه عبدالفتاح كيليطو في هذا المضمار مهم جداً:

( تعمل العادة المترسخة في السرد، في صور متعددة من صوره، على أن تنسينا أحياناً تعددَ الأصوات التي تنطق من خلاله، وتشابك عبارات المؤلف ( أو القائم بالسرد ) مع كلام الشخصيات. ) .

وما يزيد الموضوع تنويراً:

لا وجود للكلام إلا في تكراره وتقليده واجتراه...كلما أعدنا الكلام ورددناه نما وازدهر، التقليد الذي يقتل الكلام هو الذي يبعثه ويحييه.) " 7 ".

وما أتى به أرنستو ساباتو، في شهادة كاتب معتبرة، ورؤية شمولية لافتة في هذا الصدد، وذلك لحظة الحديث عما يُسمّيه  بالعلاقة القائمة بين الكاتب ومن هو قبله ومن يأتي بعده :

(ليس هناك من شيء جديد تماماً. كما أن أرسطوطاليس خرج من أفلاطون ( حتى لو كان قد تبرَّأ منه جزئياً) فبيتهوفن ولد من موتسارت. لكن من الناحية الأخرى يكون المبدع العظيم، عادة، ثمرة كل ما سبقه. فهو ينهب أعمال سابقيه كي يقوم بتركيب في إبداع جديد. وليس بالإمكان تصور فولكنر بدون بلزاك، ودوستويفسكي وبروست وتوماس وولف وهكسلي وجويس .) " 8 "

ذلك يصبُّ في مصلحة الكاتب، أي كاتب، إنما في الوقت نفسه، يبقيه في وضعية المتنبه لما عليه القيام به، وهو أنه لن في وضعية" ما قبل، وما بعد " إلا حين يكون له ظله المختلف بالتأكيد.

كما لو أن الأول موصول بالأخير، أن المضمر موصول بالعلني، أن الأبعد مسافة، على صلة لا تخفي بالأقرب مسافة.. وهكذا دواليك، وفي عمل دوست ما يضعنا في مواجهة شراكة لها علاماتها التي تشي بما هو خارجي وما هو داخلي، ما هو عائد إلى سواه، وما متوقف عليه، وما سيكون عليه التأثير اللاحق جهة قارىء ، أو ناقد له، وهو يحيل المعني به عليه فيما بعد.

يعني بذلك، أننا في الحديث عن أي عمل، مهما كان نوعه، لا يجب نسيان أو تناسي مدى مأثرة التكرار في بناء قاعدة معلوماتية، فنية، ثقافية، معرفية، ودرجة الإسهام في ذلك، حيث تتنوع البصمات، وتتفاوت إيقاعات الكتابة السردية وتجاذباتها وهي تتحاور أو تتجادل فيما بينها.

فالروائي يتحرك في المسار الصحيح، والمتوخى هنا، إضاءة هذا المسار ومحاولة قراءة المأتي به في جديده الروائي، وهو كذلك، ونوعيته، وهي المهمة والتي تشكل مأثرة الكتابة الجادة.

والذي يهمني في قراءتي هذه، هو ما إذا كان الروائي قد منح نفسه متعة روايات ومن خلال تلك الشخصيات التي استقدمها وإدخالها تسريداً في روايته، وغيرها من شخصيات أخرى جاء على ذكرها وبلسان كاتبه العجوز، وهو نفسه من حيث المتكلم وخطابه القولي، وحتى في صفة العمر" الكاتب " حيث يقارب الستين عاماً" ودور عمر كهذا في إبراز تجربة كتابة كهذه، وإلى أي درجة تكون المتعة قائمة وكيفية ربطها بتلك الجدية التي تعمّم فعلها فنياً، ويكون للقارىء موقعه جهة الانتماء في الشعور المشترك، والشاغل النفسي الجمالي الفاعل في القراءة.

ما يشكل مفصلاً حركياً في تنوير مفهوم "اللاهي" وتلك الصورة التي تتشكل في أصل العنوان ومآله الرمزي، مطلب دقة المفهوم في جعله خلاف اللاهي، أي ما يأتي ناهياً عن الإلهيّة، إلهيته في كتابة رواية لها مساحتها، وفي كل خطوة ثمة دفق شعوري – معنوي ، وأي نوع من السرد يتفعل في المساحة الكلية للرواية، وما إذا كان يتمثل جهة نسجه الروائي، في تنوع إيقاعاته، في صعوده وانخفاضه، في سيرورة القول أو صيرورته،  في حفاظه على اسمه دون غيره، أي دون أن يتشابك مع ما يشكل التهديد النوعي"الجنسي مفهوماً" لدوره أو مهمته، كما في حال الكلام العادي، أو الخطاب، أو القول الذي يكون مغايراً لأصل السرد وخطورة المتفعَّل باسمه، خاصة وأن دوست قد نوّع علاقاته زمانياً ومكانياً، وتعامل مع شخصيات روائية لا ينبغي، ولا بأي شكل تجاهل مثل هذه العلاقة والتي ترفع من شأنها، كما هي في عوالمها الروائي وانتشار صيتها في جهات مختلفة، ومعرفتها بلغات مختلفة، باعتبارها مفهومية، أي وقد اكتسبت بُعداً عالمياً، وهو ما يحفّز على قراءة الرواية، ويكون تحدياً للروائي، وفضولاً لدى قارئه لمقاربة المختلف بينهما.

سرد من داخل المدينة، سرد من خارجها بداية:

دوست يرقّم أقسام روايته دون أي تسمية، فيكون للرقم أكثر من مفهوم حسابي، إذ يندرج تحته ما يُعلِم به عبر نصه، وما يكون رصيداً فنياً مرحلياً، وجزئياً من خلاله أو باسمه نفسه.

تكون المدينة هي حاضرة الأثر، وهي الفضاء المكاني المتعدد المستويات والتطلعات، إلى جانب الميول والأهواء، العلاقات الاجتماعية وتفاعلاتها، حيث المدينة مخاض الرواية، ووليدتها، وفي الوقت نفسها المحمولة بمناقبها ومثالبها، والحاملة لهويتها المعمارية في الصميم كثيراً.

دوست ينطلق من المدينة، لأن التاريخ ينطلق منها ويقيم فيها، وكذلك أصل الكتابة، وهي بكل ما تمثّله من أفعال وأقوال بالتوازي تؤثر على محيطها، وتتلقى تأثيرها من خارجها كذلك، وهو الخارج الذي يتاخم الداخل أو يتشابك معه، جهة التأثرات المتحركة في الجهتين.

وفي أصل الكتابة هنا، تكون محنة تمثيل الكتابة وهي في تعدد أبعادها، وتلويناتها الاجتماعية، في أفقها السياسي، في مكوّناتها الاجتماعية ووأدوارها، في السلطة المتمثلة في كل مكون وحامله، وتحميل للتمثيل بما هو منظور إليه تخيلياً، وأبعد، جهة التقدير المعرفي وتصريفه فنياً.

ورواياته تشهد على هذا التحرك المتعدد الجهات عند قراءتها، خاصة حديثاً: دم على المئذنة، كوباني، ممر آمن، إنهم ينتظرون الفجر...إلخ، وتبقى تجربة" اللاهي " مغايرة لشقيقاتها من الروايات " الدزينة " في مقامها ومرامها كذلك، كما لو أنها اختبار الكاتب لثقافته الفنية، وقراءته التاريخية، وذائقته الجمالية في تلك الخطوط التي اعتمدها في علاقاته مع شخصيات لم يتوقف عند مجرد التفاعل معها في حدودها النصية، وإنما حرّر النص من زمانه ومكانه، بمقدار ما حرَّر شخصياته المنتقاة والتي وزنها في مأثور خياله الخبير فناً، من علاماتها الفارقة الحاملة لبصمة كتّابها ممن دفعوا بها من وضعية الكمون المتخيَّل إلى وضعية المعاش واقعاً ورقياً ، دون أن تفقد صلة نسبها، وثراء هذا التنسيب، وهذا التعدد في " حِمْل " الكاتب أكثر من جنسية روائياً.

كيف يجري التعريف بالمدينة، وهي المقدمة الرئيسة لعموم الرواية، فدونها يصعب التوقيع على الرواية وإجازتها روايةً، حيث الجاري وصفه مع تسميته وتحديد موقعه، وطبوغرافيته، هو الذي يظهر أنه أخذ وقتاً كافياً في المتخيّل الهندسي للكاتب على وجه العموم .

الوصف المشهدي يعرَف بنفسه، من جهة المفردات التي جرى انتقاؤها ونثرها تالياً:

(..بعد مئة وثلاثة أيام من المعارك التي استمرت من دون أن تعرف حتى ساعة هدنة، اضطرت الحياة بمظاهرها العضوية كافة أن تغادر المشهد في المدينة الرابضة على وهدة منبسطة من الأرض، جنوبي هضبة جرداء غير وعرة المسالك إلا في جهتها الشمالية، حيث تكثر الانحدارات الحادة المهيبة والشعاب الضيقة والصخور الضخمة الناتئة المدببة المخيفة المنظر..ص 11.).

المعركة تعني الحرب، والحرب تعني حالة استثناء حياتية،  وهي تمثُل أمامنا بما " تتكرم " به آلتها المدمرة من إبراز الخراب والدمار، وجلاء الرعب فيهما، ومتتاليات العنف المميت، وما يجري النظر فيه خيارات فنية تخرج عن كونها مجرد إطلالة بصرية، إنما تمارس دورها في ترجمة المرئي خارجاً، ومن خلاله ما يمكن استبطانه واستبيانه وامتحان المترتب عليه في رد الفعل وضبط معناه طبعاً.

المناظر كمشاهد تكون امتداداً لافتاً لما ينتمي إلينا تفكيراً وتدبيراً، ومساءلة لنا لما عملته أيدينا، في ضوء مخططاتنا باستشعاراتها البعيدة المدى وهي تلتقط ما هو حي لتحيله ميتاً أو خراباً، أو لتكون بمثابة بث مباشر لما يموت، في تنوع أسمائه ومآلاتها جرّاء التأثير، فهي لغة ناطقة هنا.

( فالمباني جثت على ركبها، ثم تفككت إلى مكوناتها الأساسية من حجر وإسمنت وقضبان حديد متشابكة ومواد عازلة ونوافذ وأبواب تناثرت على أسفلت الشوارع بلا حراك وقد أرهقها الصمود الأسطوري في وجه غارات الطيران وقصف المدافع وتفجيرات القنابل والألغام .ص 11.).

ذلك ما يشكّل التعبير الحي والصارخ وحتى الاستهجاني لصنافة الأيدي الملوثة بالدماء، والتي أسهمت على أكثر من صعيد في إحداث الميتات في كيانات طبيعية وتهديد المتبقي منها. لكأن المدينة تقدّم إثباتاتها، جهة الذاكرة المكانية بأحيائها وما حل به مقامها تدميراً ورعباً.

ولا بد أن هذا الإيغال اللافت من لدن الروائي في مكاشفة أو تعقُّب مشهديات الخرائب والفظائع التي تنتسب إلى الحرب، لم يأت عبثاً، ذلك سرد لا ينفصل عن بعدها الخطابي الاستنكاري ضمناً كما لو أنه : انظروا يا سماسرة الحروب وتجار الأرواح الميتة وسدنة الإجرام، هو عملكم ، حيث إن كل جملة تتموقع رمزياً في مساحة تتناسب وخاصية العنف الكامنة فيها والفاعلة إثر ذلك.

ووسط الخراب الصادم( قريباً من تلك الغابة الكبيرة ارتفع بناء من ثلاث طبقات بدون شرفات، كتب على مدخله بأنابيب مصابيح النيون الليلكية وبخط كبير طوله ثلاثة أمتار بحيث يُرى من مسافة بعيدة : فندق باراديسو..ص14 ).

وفي التالي ما يجعل " كاميرا " المتخيل في مرجعيتها السينمائية، تضيق تدريجياً، ليكون المكان: مسرح الأحداث الكبرى: الفندق، بيت القصيد، في العلامات الفارقة له:

( اكتسب هذا الفندق شهرة واسعة وسمعة سيئة بسبب ما أشيع أنه ليس سوى دار بغاء يديرها رجل أعمال كبير، استثمر أمواله التي اكتسبها من تجارة المخدرات في هذا الفندق الذي درَّ عليه أموالاً طائلة..ص14 .).

وما يأتي تعميقاً للأثر الفندقي وقد بان فيه ما يشبه الخسف، إن أخذنا بالموصوف في جماليات الإشارة المكانية، حيث الأسفل يفارق ما على السطح، ويعِدُ بما يبلبل ساحته( وكان الفندق المبغى يضم في أسفله حانة وملهى شهيراً كانت تدار فيه حفلات قمار كبيرة، ويرفع مرتادوها الأنخاب المختلفة ويعقدون الصفقات السريعة، بينما تجلس بنات الهوى إلى الطاولات لاصطياد الزبائن وسَوقهم بعد ثلاث كؤوس من المشروب الكحولي العالي التركيز إلى غرف الفندق الصغيرة في أعلى والمضاءة دائماً بمصابيح حمراء باهته....ص14 ).

الفندق الباريدوسي: الجنّتي، يا للعبة التسمية المارقة والمفارقة لحقيقة المتخيَّل المثالية. مكان لسكن مؤقت، وحلبة صراع، ومحتوى أدوات قنص للنفوس والرؤوس، وإحالة من يعيش حياة عادية إلى خلافها، وهو يندفع إلى شبكة الفندق، حيث الحانة ليست نزْلاً، إنما بث الاختلال في الرأس والنفس، إنما الوعد بما هو مخل بالروح تماماً، ما يشبه المقام القبري تشبيهاً.

وحيث المناخ مناخ حرب، إذ من خلال القصف تدمّر المكان، حتى المقبرة تدمرت، وما في ذلك من برمجة تسميات، ليكون الموت في حالته الطبيعية منزوع المقام.

وما يخص المكان الذي يعمل فيه الكاتب العجوز، وما يشكل امتداداً لفكرة الفندق، حيث الرأسمال الرمزي لما هو مخرب يقدّم وفرة معلوماتية، تضيء، وبكآبة، بطاقة التعريف بالكاتب:

( في زاوية مظلمة من الطابق السفلي، أو قبو البناية، بحسب تسمية التجار وأصحاب المؤسسات والمحال والفتيان الذين يعملون فيها، وقرب المستودعات الموحشة، ظهرت مكتبة صغيرة، صاحبها كاتب عجوز أرمل، عرِف بعكازته القرمزية ذات المقبض الذهبي ونظارته الطبية الصغيرة ذات العدستين المدورتين وشاله الحريري الأحمر الذي يلفه على عنقه في جميع الفصول، وبدلته البيضاء التي يرتديها في جميع المناسبات. كان العجوز يعيش وحيداً بعد أن ماتت زوجته وسافر أبناؤه وتفرَّقوا في أرجاء الدنيا، مكتفياً بما يكسبه من مكتبته المنسية في قبو البناية الضخمة. ص 17 ).

هذا التدقيق يمرّر علامات حضور صادمة، ومؤلمة، فيما يخص المكان السفلي، وما ينطوب عليه من بؤس، ومن ضغوط الجاري، والمكانة البائسة للمكتبة وصاحبها، الوحيد، وما يذكّر كل ذلك بالجاري هنا وهناك، حيث الناس تفرَّقوا أيدي سبأ، بأكثر من معنى.

وما يعمّق مسار السرد،عن الكاتب العجوز الذي عاش طويلاً خصومات مع الناشرين (ولما يئس من صلاح حال النشر في بلاده بدأ بطبع كتبه بنفسه ...)، و( ولأن الكاتب العجوز كان على خصام مع المؤسسات التي تنظّك الأنشطة الثقافية أيضاً، فقد صار يحيي بنفسه حفلات توقيع خاصة يبيع من خلالها كتبه التي يروج لها بشكل لم يألفه زملاؤه الكتاب..ص18 .).

وما يسهم في إبراز شخصيته، وقد بدأ بقراءة الروايات في عزلته)رواية ثيربانتس: دون كيخوته دي لامانشا، الذي قضى أوقاتاً طويلة يقرأ قصص الفروسية حتى فقد عقله وقرر أن يصبح فارساً جوالاً يجوب الآفاق ليدافع عن المظلومين.ص21... وهكذا: كانت صلاته مع مجموعات روايات،13 رواية، ووضعها في رفوفها السابقة.. وفي جو الحرب،جاء صاروخ وحول كل شيء إلى رماد..تناثر في الفضاء، حيث كان يحضر لكتابة رواية: لكن ما حدث بعد ذلك كان شبيهاً بحلم سريالي: خرج أبطال الروايات الثلاثة عشر الذين انتخبهم الكاتب العجوز من بين مئات الشخصيات لأجل ألهيته واحداً تلو الآخر من صفحات مسودة الرواية، التي كانوا محبوسين فيها، فهاموا على وجوههم في المدينة الموحشة،  ثم اجتمعوا  في فندق باراديسو المقفر ذي الأضواء الليكية لينسجوا تفاصيل هذه القصة التي لطالما حلم الكاتب ذو العكازة القرمزية والبدلة البيضاء بتدوينها. ص 22.).

من المؤكد أن يكون المأمول هو هذا الملفوظ اسماً، لأنه يعبّر عن تلك الحرية التي اشتهاها دون كيخوته، ومغامراته التي استغرقت أمكنة مختلفة في زمانه، شاهراً رمحه الشهير، صحبة حصانه البائس، وروحه الساخرة، وهي تؤرشف وجوه من يلتقي بها، وتأبيدها في ذاكرته الفردية.

وثمة ما يعزّز هذا المقام، جهة الرهان كثيراً على دون كيخوته، في لقاء الضابط جيوفاني. لكل منهما ما يريد القيام به.

وقول دون كيخوته:

( لا معنى للحياة يا صديقي. يتوهم الإنسان عبثاً أن هناك ما يمنح حياته معنى. كيف سيضيف الانتظار الممل الذي يزدرد عمرك كله معنىً لشيء لا معنى له أصلاً! عبث في عبث..ص26.

عن الحانة، بلسان جيوفاني:

في هذا الفندق حانة لطيفة سنردادها بعد قليل. تدير هذه الحانة عجوز متصابية، لكنها تعطف على الفقراء وتسقيهم أحياناً بنصف القيمة أو حتى مجاناً.ص 29.).

وفي حوار بين زوربا وجيوفاني وسانتياغو.

(كان التركيز على  معنى ومن ثم موقع الإنسان في الحياة، ومن خلال الرواية، ليقول زوربا: الخلود الحقيقي هو أن نعيش كما نهوى، أن نتمرد على ما هو مرسوم لنا، أن نتخطى دوائر المجتمع الضيقة...لن تتاح لنا فرصة ثانية للعيش. ص 35 .).

وحين يقيم الكاتب العجوز بين الشخصيات تعارفاً، حول طاولات توزعت عليها شخصياته المنتقاة تلك:

الأولى( يجلس السيد ألكسيس زوربا اليوناني اللطيف مع مدام إيمّا بوفاري الفرنسية الفاتنة والليدي كونستانس تشارترلي الإنكليزية المثيرة. من هناك أيضاً ؟ آه لقد انضم إلى طاولة السيد زوربا الفارس الإسباني الشهير دون كيخوته دي لا مانشا، والصياد الكوبي العجوز سانتياغو الذي وصفه همنغواي كل شيء فيه عجوز إلا عيناه... أوه ..! ها هو الضابط الإيطالي الصبور جيوفاني دروغو..

الثانية: أيها الحضور الرائع اختارها السيدان إدريس الجبلاوي وقابيل. لن أشير إلى هويتهما القوميةـ فهما نت الشخصيات فوق الهوياتية. إنهما شخصيتان عابرتان للأوطان وال.مان والهويات. وهنا أنتهز الفرصة لأخبركم بصدق أنه كان بإمكاني بل كان في نيتي أن آتي بشخصية قابيل من رواية المصرية نجيب محفوظ، لكن الاسم الذي حوَّره محفوظ، أي قدْري، لم يرقني. إن قدري اسم مستحدث لا يناسب محنة قابيل التوراتي....لقد كان خوسيه ساراماغو – أيها السادة- موفقاً جداً في تشريح شخصية قابيل الذي لا تقل محنته ومأساته عن محنة عمّه إدريس في " أولاد حارتنا " . لكن دعونا الآن من شخصيات الروايات وأسلوب بنائها، ما يهمنا الآن هو أنتم، الشخصيات المحترمة التي حرَّرتها من سجونها وأعدت بناءها ورممتها من جديد..

سُمع تصفيق باهت من الحضور. لم تلق هاتان الشخصيتان أي احتفاء يناسب مقاميهما الخطيرين، لكن زوربا نهض وصفق بحماسة شديدة وهو يصيح باليونانية : " كاليميرا كاليميرا".. مرحّباً بهما..ص39 .

أما الثالثة: فتضم خمسة أشخاص.  وهذه الطاولة أيها السادة مهمة جداً وخطيرة. لا أقول هذا لأنني أستخف بالجالسين على الطاولتين الأولى والثانية بل لأحذّركم. وأنتم أحرار بعد تحذيري في طريقة تعاملكم  مع أصحاب هذه الطاولة.

...أولاً السيد روديون رومانوفيتش راسكولينكوف ، الروسي العملاق. ثم السيد يوهان موريتز، الروماني المكافح، فالسيد دوناسيان ألفونس فرانسوا أو الماركيز دو ساد الرهيب ثم الراهب، اليافع آدسو البنديكتي،...وأخيراً سيداتي وسادتي: أقدّم لكم العامل التشيكي الشاب البائس غريغور سامسا الذي لن ينسى الناس ما فعل به كافكا، والأصح أنهم لن ينسوا ما فعل به النظام الاقتصادي الجائر... وهكذا أيها الحضور الكريم فإن عدد المحتفى بهم في لعبتنا الروائية هذه يكون قد اكتمل، وهو كما أسلفت ثلاثة عشر شخصية منتقاة بعناية ". ص 40 ( الصحيح: ثلاث عشرة شخصية ).

انتقاء هذه الشخصيات لحظة النزول بها إلى مخبر الرواية لتبين الركائز المعيارية أو الجمالية التي اعتمدها، ليس بالأمر السهل. طبعاً يبقى الكاتب حراً فيما يختار، لكن الاختيار يتوقف عن كونه هكذا، عند أي مقاربة نقدية لفحوى الإجراء.

ثلاث عشرة شخصية في ثلاثة عشر قسماً، يا للرقم الصعب واللافت بدلالته أحياناً، بمفهومه الفردي، وما يتردد حوله جهة التمثيل الدال على حقيقته المتداولة ورهان الكاتب عليه !

لماذا الاكتفاء الموسوم بهذا العدد؟ ثمة شعور بالاكتفاء النفسي، حيث يجري توزيع الأدوار، وحيث الفكرة التي عمل بموجبها" لاهياً " في " إلهيَّته " تبدو وقد أتت أُكَلها بالطريقة هذه.

ألا يتدخل الكلام الذاتي في تطعيم السرد، على الأقل، بما يضيء البعد العلائقي لبنية النص؟

يضاف إلى ذلك أن هذه الشخصيات تكون خرَّجت أو أخرِجت من عوالم نصوص روائية كتّابها ذكور، وهم مشهورون، من سربانتس إلى ساراماغو،ولهم باع معتبَر في تلك الجنسانية التي تنعطف على ما هو ذكوري، في تنسيب السرد ومقام الفعل فيه. وربما كان السرد الذي أسلس القياد من خلاله لسارده المقرّب منه اعتبارياً: الكاتب العجوز، مفارقاً ضمن مسافة معطوفة عليه، وقد استحال خطاباً واعياً، أو كلاماً مسموعاً بنبرة صوته، أكثر من سرد مفارق لنوعه هنا. أي ما يبقي بنية الحوادث العامة التي تضم إليها شخصياته، أقل حضوراً،تحت تأثير التفكير في قائمة الشخصيات المنتقاة، دون استدعاء أسماء كاتبات يعرَف بروايات لها بدعتها.

ليس من إمكان القول بالتجريد مما هو شعوري أو نفسي في عملية الاختيار بالذات، كما هي بنية الشخصية لأي كان واقعاً، في البُعد التركيبي للاسم الواحد نفسه، وصفته نفسها.

وهو ما يذكّرنا بصدد مشكلة الكاتب الرئيسة( تكون الرواية، بالنسبة لي، شأن التأريخ وبطله: الإنسان، صنفاً غير نقي في جميع الأحوال. فهي لا تخضع للقوالب ولا ترضخ للتنفيذ. ...فالرواية هي عمل من أعمال النفس وليس الروح..) " 9 "

تلك هي المأساة الطبيعية والجديرة في أن تُراعى، ويُعوَّل عليها في آن، ودون ذلك لا تعود لأي نوع فني، أو أدبي، أو كتابي قائمة. مثلاً، في رواية " اللاهي " ما يحفّز على التفكير بالعبثي، إنما بتلك الجدية الصارمة، ليكون العبثي جديراً بمحتواه، إنما ما يرفق به مأساوياً. حيث الرواية مأساة المدينة، وهي بعائدها الملحمي، وهي اليد الخفية والمتبصرة التي تحفر في ذاكرتها المكانية والزمانية، وتنقّب في أصولها الخفية، والإصغاء إلى الصمت المدوّي في عمقها السحيق.

وربما أمكن التقدم بطرح سؤال آخر، في سياق الاختيارات الممكنة جهة الشراكة في بناء الرواية  هذه، وهو: تُرى، لو أن دوست استعار شخصية من إحدى رواياته، أما كان للرواية من استحقاق آخر، أكثر إثراء للمعنى، واستيفاء بالدلالات بالمقابل، وتلويناً لمعالمها الفنية بالذات؟

ربما كان الضغط على النفس، بما يوسّع في ساحتها، والسعي إلى التحرر مما هو ذاتي ومتوارث ثقافياً في العمق النفسي ذات مردود نفسي ومسجَّل لصالح الكاتب نفسه.

ذلك ما يذكّرنا به إيكو، بقوله(يجب أن نقيّد أنفسنا بإكراهات لكي نبدع بحرية. إن الإكراهات في الشعر وليدة الشطر والبيت والقافية، أي ما سمّاه المعاصرون بالهمس عن طريق الأذن. أما في السرد، فإن الإكراهات متولدة عن عالم ضمني، ولا علاقة لهذا بالواقعية( حتى وإن كان هذا يشرح ذلك إلى حدود الواقعية) " 10 ". وهو ما يدركه ويقدّره من يعيش حمْى المتنفس الكتابي، الأدبي وخلافه، ومخاض الإبداع عينه.

السرد الذي يتقطع:

في سياق العلاقات بين شخصيات الرواية، ليس من زمان خطي، إنما ما يراه الكاتب يؤخَذ به، أي حيث ينكسر الزمان، كما هو مفهوم التاريخي الذي لا يؤخَذ به تاريخانياً" خطياً " فثمة تراجعات وانكسارات، لكن ذلك، بالمقابل أيضاً، لا يعني طمس أي سؤال بهذا المنحى، وحيث إنه هو نفسه يظل متدثراً بما هو دائر دلالياً ومعتملاً شعورياً هنا وهناك في حيثيات الرواية، كما في حال غريغور سامسا الأكثر حضوراً في العصر الحديث، شخصية كافكا المدهشة في رواية: المسخ/ التحول.

حين نقرأ تعليقات.مثلاً ، من دون كيخوته، لحظة القيام بجرد أسماء الحضور:

( الغائب هو غريغور سامسا، لقد وجدته مقتولاً عند حدود الغابة الغربية..ص 41 .).

وما يخص الكاتب العجوز (-هذا يخالف بالطبع ما رسمتْه رواية كافكا لشخصية سامسا الغريبة. لكنني أتيت به إلى هذه الألهية لأعيده إلى طبيعته..ص41.).

لكن ذلك يبقي غريغور سامسا في وضعية الآخر الذي يظل عصياً على المكاشفة. أي جهة الممانعة، وما إذا كان في مقدور كاتبه العجوز، أن يسهم في إبراز الشخصية الكافكاوية هذه خلاف المتداول باسمها في بطون أمهات الكتب التي تعرضت لها.

وما إذا كان الذي أفصح عنه الكاتب العجوز ماضياً بما نوى علي:

( رأى صاحب المكتبة العجوز أن الأمور قد تأخذ منحى آخر مختلفاً عما يحطط له، ولكي يترك الأحداث تجري وفق منطقها الروائي فد طلب من الحضور فامتثل الجميع لأمره. وهكذا نهض ليخطب قائلاً:

" أيها السادة الذين أعلنتُ قيامتكم وبعثكم من مراقدكم الورقية..ص42 .

وقبل أن أنسى، يجب أن أخبركم نقطة هامة أيضاً: لقد استلمتُ إدارة الحانة من امرأة عجوز كانت تشرف عليها. لأقل بعبارة أدق إنني استأجرتها لغرض عرض لعبتي هذه التي أشركتكم فيها. ص 43 .).

هذا القول الفصل يضيء ما بعده وما قبله معاً، ويدفع بقارئه إلى اقتفاء أثر كل مقولة دائرة في مضمار نص الروائي بالذات، ومدى قدرته على " تطويع " الاسم، وحتى " ترويضه " لصالح ما عزَم على تسطيره وإطلاقه نصاً ممضياً عليه باسمه طبعاً.

إن الاستمرار في القراءة يزيدنا قرباً من معرفة حقيقة هذه المعادلة، وخطورة " اللعب " بالنار التي تتمثل في مدى مقاومة غواية السرد وسلطته، ومحاولة التحرر منه، أو تخفيف وطأته، وهو في تاريخه الطويل، وهو في تلك القوى التي تتزاحم، ما أن يشار إليه، وتنسيب جانب منه إلى الكاتب في ملاكه الأدب، والفني تحديداً، وهو مرفَق بما يعزز مكانته في التوصيح الاسمي، حيث السرد في غاية التنوع، ولكل زمان وأمكنة، علامات فارقة مختلفة عن متغيرات مفهوم السرد.

هناك إشارة كاشفة لحقيقة كهذه، ناحية ما يتخيله الكاتب، وما يجري خارج نطاق متخيله:

(كثيراً ما يقول المؤلفون أشياء لا ينتبهون إليها ولا يكتشفون ضرورة قولها إلا بعد ردود أفعال قرائهم.) " 11 "

وهو يقرّبنا من المفهوم التركيبي للمتخيل نفسه، كونه موصولاً بجملة قوى نفسية، حيث ما يرغب الكاتب في النظر فيه، وتثبيته، ليس هو الذي يستجيب له، في المحصّلة، جرّاء مقاومات قائمة.

أعني بذلك ما يؤخَذ به سرداً، وبالنسبة إلى هذه الشخصية وخلافها، إلى هذه الشخصية في مكان دون آخر، وكيفية العمل عليه، وهو في خطورة السير به " أي السرد " نحو بؤرة توتر تكون كلامية، تضعِف من حضور السرد لمصالح الجمالي ولعبته " ألهيّته " وليس سردية أو سردية دون المطلوب.

لنجد أنفسنا، ومن وجهة نظري، في سياق نسيج النص الروائي بمغذياته المختلفة، إزاء تنوع في السرد، وانعطافه:

ما يكون سرداً في متخيل الروائي، وكيفية إدراجه عاملَ بناء تخيلياً بلسان معين.

ما يكون سرداً عبر سارد يصعب عزله عن الكاتب الرئيس" الكاتب العجوز واختلاف صوره في ثبت النص من حال إلى أخرى ".

ما يكون سرداً باسم الشخصية وهي تعيش حالاتها المختلفة، لنكون إزاء سرد كان لها، وسرد يكون لها، وسرد هو المقام في متخيل الكاتب الفعلي، وليس الكاتب العجوز ، وإمكان النظر في تلك المسافات الفاصلة المؤثرة في تشكيل المعنى.

لنتابع ما يمكن التوقف عنده في ألهيّة الروائي ولعبته عبر مُندَبه الرمزي بتعبير ما، وبصورة ما، الكاتب العجوز.

ما يجري في القسم  الرابع، وأنا أورد جملة من الاستشهادات تعزيزاً لفكرة السرد ومنحنياته:

( في اليوم التالي، صباحاً، التأم في بهو الفندق الفسيح شمل الشخصيات الخارجة من الروايات باستثناء غريغور سامسا. اجتمع الأبطال حول طاولة كبيرة وبدأوا يثرثرون بدون أن يجمع خرز ثرثراتهم سلكٌ ما. ص 44.

تتولى التعليقات في اللقاءات وتبادل التهم عن القاتل لهذه الشخصية أوتلك..

مثلاً قول إدريس لقابيل: .. أحلّفك بما هو مقدس عندك يا قابيل.. أحلّفك بحليب حواء الذي رضعته مثل أخيك القتيل هابيل، قل الحقيقة ولا تراوغ. لا تلو ِ عنق الحقيقة فتقول إن وسوستى هي التي تزيّن للناس سوء فِعالهم لأن هذا كلام سخيف ومردود عليكم. هل رأيتني آمرك بقتل شقيقك هابيل مثلاً؟ هل وضعتُ أنا الحجر في يدك ثم قلت لك هشّم به رأس أخيك يخلُ لك وجه أبيك وربك وتتزوج من تشاء...ص51.

وبعد تجاذب أطراف الحديث هنا وهناك:

فلتعلموا أنني لم أكن وحدي المعترض على خلق أبيكم الأول. كنا نحن- معشر أهل السماء- نعلم أن مخلوقاً من الطين سيكون ضعيفاً هشاً، وأنه سيعصى الأوامر وسيرتكب النواهي، فاقترحت أنا وزملائي عدم المغامرة في منح الطين قيمة لا يستحقها.... رأيت أنه لا يليق بي أن أنحني له فعصيت الأمر وتعرفون باقي القصة. لقد صدقت نبوءتنا ووقع  ما كنا نحذر منه . ملأ ابن أدهم الأرض فساداً وقتلاً وحروباً، وبدل أن تتحقق إرادة السيد الأعظم في استعمار الأرض جرى تدميرها منذ أول يوم..ص 53.

وفي نقطة مجادلة وتوضيح حقيقة بين جيوفاني شخصية بوتزاني وسانتياغو، يقول الأخير:

اللعنة على النقاد. أحياناً يقولون أشياء لم تخطر للمؤلفين ولا حتى لنا- شخصيات الروايات- أصلاً. تصور أن بعضهم جعل أسماء القرش ، التي كانت تنهش سمكة المرلين ذات الرمح الطويل التي اصطدتها ، رمزاً للقوى التي يصارعها الإنسان.ص 63.

وفي نقطة أخرى بين آدسو وإدريس، يقول الأخير:

لست شريراً. وكذلك لستُ حكيماً. أنا مجرّد كائن يحتكم إلى العقل والمنطق وأنا لم أنكر وجود السيد الأعظم ولم آمر أحداً بإنكاره..ص65.

وفي حديث ساخن حول المرأة، ومدام بوفاري هي مدار الحديث، يقول دو ساد:

قضاء ألف عام من السجن بصحبة امرأة رائعة مثل السيدة إيمّا بوفاري أفضل من حرية أبدية مطلقة بلا امرأة. ما كان الباستيل سجناً لو أن امرأة فاننة مثل مدام بوفاري سكنت في زنزانتي.ص 79.

مشهد رؤية جيوفاني لليدي تشاترلي خارجة من غرفة زوربا: أثاره منظر فخذيها الصقيلتين الممتلئتين اللتين لمعتا في أضواء الصباح التي انسربت إلى الردهة الطويلة من نافذة كبيرة في آخرها. حدَّق  باشتهاء إلى صدرها ونهديها الحرّين ثم ظهرها العاري..ص 97.

في مشهد آخر يخص قابيل وهو يستعرض في مخيلته الجسد المتمرد العنيف للسيدة تشاترلي. الجسد الفاتن الذي خاض في ثناياه بعض الوقت مستمتعاً بتضاريسه المثيرة في غرفة زوربا... تذكَّر الفخذين الصقيلين المرصوصين اللذين يحصران في نهايتهما عند الحوض الكبير مثلثَ المتعة...ص129 ( ملاحظة مني: إبراهيم محمود: جرى تذكير الفخذين وتأنيثهما، والصحيح: التأنيث ).

حول القتل الغامض، وتدخل الكاتب العجور في سرد المطول أحياناً: ..أدرك آدسو خلال تلك الأيام الصعبة أن القتل فعل لا يمكن مراقبته والتحرّي عنه من دون أن يصاب الإنسان بنوع من الهستيريا. كما أدرك أن وصية " لا تقتل " التي كتبها السيد الأعظم على ألواح أحد مبعوثيه بخط يده لم تكن عبثاً..ص138.

وفي حوار استغرق مساحة لافتة بين جيوفاني ومدام بوفاري، عن تناول كأس والانتظار، وقد لبّت طلبه في تقديم زجاجة  الشراب.. وهي تقول في نفسها: لا ينبغي أن أترك رجلاً يموت وحيداً !

ابتسم جيوفاني ابتسامة رضا فأجأت مدام بوفاري.. بدا كأنه سمع أفكارها فقال:

-مؤلم يا عزيزتي أن نعيش بصخب ونموت وحيدين.ص 143.) .

هذه الاستشهادات ربما تقدّم لنا صورة خرائطية بإحداثيات مختلفة عن طبيعة العلاقات القائمة بين شخصيات الرواية، وكيف يجري تحريكها من جهة الكاتب العجوز، وربطها بـ" أصولها" في أرحام نصوصها الأولى وبيئاتها ومجتمعاتها بالمقابل.

من المؤكد، أن الذي قدَّمه دوست هو محل تقدير، في تلك المناورات التي لم تتوقف وهو يحدد المساحة التي تضم شخصياته، وما يدور فيما بينها من حوارات وسجالات، تضم حيوات تترى.

إنها شخصياته التي " مفصلها " بطريقته، وكاتبه العجوز موفَد من قبله، دون ادعاء التماهي هنا.

لكن هناك الكثير مما هو مدرَك في بنية الشخصيات وهي تمارس ما كانت تعرَف به، في ترميزاتها المختلفة، وبقي البعد الإغوائي فاعلاً في متخيل دوست، بشكل لافت، من سرفانتس إلى ساراماغو، من همنغواي إلى نيكوس كازانتراكيس، رغم التقارب الزمني بينهما..

كما في صيرورة الحوارات، وقائمة الاتهامات، ومغزى كل قول بالتالي.

وما يخص سمات تخص شخصيات حافظت على موقعها كما هي أصولها، كما في حال كل من مدام بوفاري والليدي تشاترلي .

وما يتركز على جانب التقارب والتداخل والتناص وطبيعته:

مثلاً، وهنا، أتوقف عند مثال محدد ، ما يخص شخصية قابيل، والمستعارة  طبعاً من رواية بالاسم نفسه لساراماغو " البرتغالي "، عند قراءتها، يُلاحَظ في الحال مدى طغيان الحضور  الاعتباري لكاريزما الشخصية، ومدى سريان فعلها الجمالي الإيروسي أو الجينالوجي" النشأتي " في مفاصل مختلفة من " اللاهي " ومن خلال جملة اقتباسات:

(كان قابيل وهابيل أفضل الأصدقاء.... وفي يوم من الأيام، طلب قابيل من شقيقه أن يرافقه إلى واد قريب حيث قيل إن ثعلباً كان يملك وجاره، وهناك بيديه، قتله بعظم فك حمار كان قد خبأه في وقت سابق، بقصد غادر، في رقعة عليق. ص 30.

كان قابيل في سرير ليليث: كان افتقاره إلى الخبرة الجنسية على وجه التحديد هو الذي أنقذه من الغرق في دوامة الشبق الذي استحوذ على المرأة، و، في لحظة، جعلها تطلق صرخات كمن أصابه مس من الجنون. كزّت على أسنانها، عضت الوسادة ، ومن ثم عضت كتفه، وحتى راحت تشرب دمه. كان قابيل يكدح بتصميم فوقها، وأصابه الارتباك بسبب حركاتها وصرخاتها الجامحة، الوقحة، لكن، في الوقت نفسه، كان هناك قابيل آخر لم يكن هو نفسه يراقب المشهد بفضول، ببرود تقريباً، الأطراف التي تبحث عبثاً عبثاً عن شيء ما، الالتواءات الجسدية، الأوضاع التي تطلّبها الجماع نفسه أو فرضها إلى أن تم بلوغ قمة اللذة الجنسية..ص 55 .

على سفينة نوح، يتواجه كل من الله وقابيل، حيث مات الجميع، قول قابيل: باستثناء نوح الذي أغرق نفسه بإرادته الحرة، أنا قتلتهم جميعاً"..

يوبخه الله: أنت قابيل فعلاً، القاتل الحقير، الخسيس، الشرير، قاتل أخيك"..ص158.

والنهاية تختتم باستمرار الجدال، ثم: القصة، مع ذلك، انتهت، وليس ثمة شيء آخر يمكن أن نرويه. ص 158.) " 12 "

أستطيع القول، كما أشرت، إلى أن هذه الرواية، وهي دون حجم رواية دوست في ترجمتها العربية، ألقت بظلالها الفنية، والتخيلية، والتركيبية والدينية المنفتحة على متخيل دوست حتى النهاية، لأنها كانت رحبة، تستنطق الديني دون إدخال ما هو خطابي، وبلغة شعرية، يُستشَف منها جانب الخبرة وتحررها من أي فوبيا جانبية في مجتمعه .

هذا القول ليس شارة "إفساد" فضيلة النص الروائي الذي جاء به دوست، وإنما محاولة إبراز تلك التقاطعات القائمة، وما يتعلق بعامل التأثير، ومفهوم التناص وحقيقته هنا. ليكون ما هو سردي لدى ساراماغو، أقل سردية عند تحويله إلى سرد يفتقد إلى النضج اللازم، أولاً ليحمل اسم دوست، وثانياً، وليخفي فيه بعد خطابي على وقع التأثير، كما هو النسيج الذي تختفي خيوطه في اللحمة المتكاملة والملونة، إثر الدقة في صنعة النص بالذات.

السرد الذي يستدعي المساءلة:

وهو ما ينصب على القسم الأخير " 13 "!

وذلك يخص حقيقة رواية " الألهية " ( وليس اللاهي. كما هو العنوان، حيث الانطباع النفسي مختلف ) من صص159-181، وما يجري من حوار ساخن ومتوتر بين الكاتب العجوز لاحقاً وشخصياته وهي تندفع إلى قتله، وجانب الرهان على الاسم، والمتوخى من الرواية أصلاً :

( بالرغم من أن الزمن أصيب في رواية " الألهية " بتشظ واضح، وطالت مفاصله المتعددة ميوعة فاجرة حتى أصبح شبيهاً بشمع ذائب، إلا أن بعض مظاهره بقيت صامدة عصية على التشظي والسيلان.

وهكذا فقد ظلت الشمس، في الرواية، على حالها... الزمن انتقال من مكان إلى مكان. أي أن الحركة هي التي تنتج الزمن وتمنحه معنى..ص159.

لاحقاً، يتم اكتشاف حقيقة القتل ومن وراءها: الكاتب، وقائمة جثث المقتولين:

ظهر وجهه بوضوح، كان هو المؤلف العجوز فعلاً. الكاتب اللاهي الخارج من رماد مكتبته المحترقة ببدلته البيضاء ونظارته ذات العدستين الدائريتين...ص167.

يواجهونه بالحقيقة:

-لقد أحييتكم من جديد..

ردوا عليه:

أحييتنا لتقتلنا وتتسلى بالرعب الذي نكابده مذ جئنا إلى أرض روايتك..ص 168.

...

الذين قتلتهم لم يبق لوجودهم ضرورة روائية كما أخبرتكم..ص169.

ويرد على قابيل في نقطة ما:

لست ساحراً يا قابيل.. أنا مؤلف. أنتم لستم سوى شخوص في خيال الظل وأنا المخايل.ص172.

ويعرج على ذكرأسماء كثيرة من شخصيات روائية كان يمكنها إيرادها: الفاتنة آنا كارنيا ، اللص الثائ جان فالجان، الدكتور جيفاكو، بيكاس ابن الملا بيناف، ...صص172-175.

ويهدد بأنهم لا يستطيعون فعل شيء معه، لأنه يتحكم بهم:

إذا كنتم ستقتلونني فسيكون القتل بإرادتي قبل كل شيء... لتعلموا جيداً أن موت المؤلف يعني في النهاية حياة النص...ص 177.

ويقتلونه تالياً:

في حوار بين مدام بوفاري وهي تلاحظ كيفية لفظ الكاتب العجوز لأنفاسه الأخيرة، ووجه الليدي تشارلي المرهق، وتراها وقد حزنت، تقول:

هي قصة بأي حال. قتلوه لتبقى القصة. ص 179.

وما يخص حيرة الكاتب العجوز، وقوله وهو جملته الأخيرة: كل الجهات قاتلة. ص 180 .وفي النهاية، ما يخص السرد:

في هذه اللحظة دوَّى صوت انفجار آخر أشد من سابقه، بدأت الكتب تتساقط واحداً تلو الآخر ولم يبق فوقها أي كتاب... كل ما فعله أنه كتب جملة النهاية بشكل لم يخطط له من قبل. كان سعيداً لأنه أنهى الرواية بجملة مدوّية. دَّن تلك الجملة التي جاءته في اللحظة الأخيرة على عجل، ثم اختفى هو وما حوله من كتب في الحريق الهائل وعلى شفتيه شبح ابتسامة محيّرة. ص 181 .)

لقد أوردت هذه الاقتباسات المختلفة، لإظهار أي نوع من العنف تملّك هذا القسم، تحت وطأة ما سبق، وما يمكن قوله في حقيقة " الكاتب العجوز " أي ما يمكن أن يقال في المستقرأ طبعاً، وليس ما يحيط بكلّية الحقيقة، فذلك مرفوض تماماً.

عنف أراده الروائي، للمضي به إلى ما هو كشّاف أثر القائم خارجاً، بين مفهوم مثبت في عبارة " موت المؤلف " ومفهوم ربما طرحه للنظر فيه، روائياً، وهو أنه الكاتب العجوز كان ضحية ما تفكَّره وتدبره. هل يعني هذا أن فعل القتل، ومشهد الدمار في النهاية، يخرج اللاهي عن نطاق ما أراده لنفسه، ويحرِج التسمية، بمقدار ما ينزع عن " الإلهيَّة " طابعها المزاحي، أي ما يشكل اعترافاً بالشخصية الروائية، وقد خرجت عن طورها، ولها سلطتها كذلك؟

لعل الذي أثيرَ في هذا القسم، ودون فصله عما سبق،يشجّع في كثافته، على طرح المزيد من تلك الأسئلة التي تنبش باطن النص، وتضي كل زاوية فيه، وترفع من شأن النص في مفهومه التقليدي حيث النهاية تكون مترتبة كنتيجة لما كان، ومنذ البداية، وفي الوقت نفسه، لا يعود السرد، كما هو طبعاً، كما هو المفصح عنه هنا وهناك، لأن المسطور لا يوفّر أدلة النظر والتقصي فيه، بمقدار ما يحفّز شهية المكاشفة والمقاربة النقديتين، نظراً لوجود ذلك الرصيد الدلالي في مفهوم السرد الذي تتنوع هيئاته، وانطلاقاً من مواقع المتحدثين في القسم هذا ومنحنيات السرد فيما تقدَّم.

في متابعة نقدية لكتابات موريس بلانشو، يحضر هذا التباين بين فعل الشخصية في السرد، وفعل السرد في الشخصية الموصوفة، بين ما يكون ذلك الغلاف المشيمي الذي يحيط بـ" الجنين " العضوي المنتظر ولادةً ونضجاً تالياً، ويتنفس في مناخه، وما يكون لسان حال له، والفرق الكبير في الحالتين، وفي نقطة مما أفصح عنه الناقد:

( لم تعد الشخصيات تعيش أحداثها بل تسردها ، مما يدل على أنها انفصلت دائمًا عن نفسها. ويحدد أحدهم: "إنه تفوقنا عليهم كأننا سرهم".).

وما يهمنا في هذا القول هو المعزّز لمعناه:

( لم نعد نعرف ما هو السرد وما هو الكلام. ومع ذلك ، فقد أوضح جينيت أن أي خطاب يمكن ، دون تعديل ، أن يدمج أجزاء من السرد ، في حين أن السرد ، بمجرد ظهور الخطاب ، يلغي نفسه ويلحق بالخطاب.) " 13 "

هذا الخلط هو الذي يفيد في أساس المكاشفة، وتقدير نسبة نجاحات الكاتب فيما قام به، وما يمتد بنصه إلى الآتي، إلينا، إلى الآخرين، وتلك هي السمة الجوهرية لأي رواية، أي (تجعلنا الرواية نصل إلى معرفة لا يمكننا الوصول إليها إلا من خلالها: "فهم مشاعر الآخرين  ، وبهذه الطريقة ، فهم مشاعرنا" ) " 14 "

تُرى، إلى أي درجة تمضي بنا " ألهيَّة " روائينا دوست، في مدخولها الجمالي، وصفة المستقبلية فيها، من خلال لعبتها الروائية، وما يخص النقاد هنا، وهم يقبلون على قراءتها، وتستمر هي؟

ذلك متروك، كإجابة متنوعة المقاصد ومقامات، للآتي في الوقت نفسه ! للنقاد ألهيّتهم أيضاً!

إنما: هل يمكن النظر فيما نعيشه " جهنمياً " هنا وهناك، دون النظر فيما جاءت الرواية هذه به، وهي مشغولة بحمّى الموت، وكوابيسه في  عز الظهيرة ؟!

مصادر وإشارات:

1-جان دوست: اللاهي " فردوس الكاتب العجوز " رواية، شركة المطبوعات، بيروت، ط1، 2022. في 182 ص من القطع الوسط . طبعاً كل ما يخص الرواية من استشهادات يرِدُ ضمناً.

2-ينظر في مصدره، بالحرف العربي في كتاب جان دوست: الدر الثمين في شرح مم وزين، سبيريز، دهوك، ط1، 2006، البيت 2590، كما حدَّده الكاتب، وهو:

عالَم كو وكي خيال ظِلَّه     صانْع به خوه هادي ومضِلَّه

أي حيث يكون الكاتب، حال خاني صاحب السلطان المطلق فيما تأتي به قريحه متخيله، وفيما يكون نزيل قرطاسه في الحالات المختلفة، وقد تعدَّدت أدوارها المركَّبة  حال مم وزين!

3- كمال الرياحي:"اللاهي" بأبطال الروايات الشهيرة، جان دوست، موقع الرصيف، 20 نوفمبر، 2022.

4- حنا مينه: النجوم تحاكم القمر، دار الآداب، بيروت، ط2، 1997، ص 5 .

5- أوكتافيو باث: الشعر ونهايات القرن، ترجمة: ممدوح عدوان، دار المدى، دمشق،ط1، 1998.ص 13.

6- هارولد بلوم: قلق التأثر" نظرية في الشعر "، ترجمة:د. عابد إسماعيل، دار الكنوز الأدبية، بيروت، ط1، 1998.ص25.

7- عبدالفتاح كيليطو: الكتابة والتناسخ " مفهوم المؤلف في الثقافة العربية "، ترجمة: عبدالسلام بنعبدالعالي، 1985، الأعمال، الجزء الثاني" الماضي حاضراً" دار توبقال، الدار البيضاء،ط1، 2015.ص 129-137.

8- أرنستو ساباتو: الكاتب وكوابيسه " في قضايا الرواية المعاصرة "، ترجمة: عدنان المبارك، منشورات أزمنة، عمّان، ط1، 1999،ص 95.

9-المصدر نفسه، ص 17-86 .

10- أمبرتو إيكو: آليات الكتابة السردية، ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد، دار الحوار، اللاذقية،ط1، 2009، ص 35 .

11- أومبرتو إيكو:حكايات عن إساءة الفهم، ترجمة: ياسر شعبان، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة،2006، ص 83 .

12-جوزيه ساراماغو: قابيل، ترجمة: علي عبدالأمير صالح/، رواية، منشورات دار الجمل،بغداد- بيروت،ط1، 2017. وقد وردت أرقام صفحات الرواية في المتن، من باب الإيجاز.

13- Maxime Decout:Maurice Blanchot : « Je » ou comment s’en débarrasser"De l’objet voix à l’« ob-je »"

مكسيم ديكو:موريس بلانشو: "أنا" أو كيف أتخلص منه "من الكائن الصوتي إلى موضوع " أنا "

14- François Brémondy: Naïf examen de quelques paradoxes de Maurice Blanchot sur la littérature et la pensée. Dans Lignes 2012/2 (n° 38)

فرانسوا بريموندي: فحص ساذج لبعض مفارقات موريس بلانشو في الأدب والفكر


 

 

 


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية