حافيةٌ روحي تسيرُ في الشوارع، تزرعُ بذورَ العشقِ، تلملم الوجع، تروي بها نعناعَ بيروتَ

‫باسمِ الحبّ والبراءةِ سنبقى أطفالاً، نلملمُ شظايا خطاياهم بأقدامنا العارية، ونروي الأرضَ التي فلحتها صواريخهم، وفي كلّ ثلم ينبتُ الحبقُ والزعترُ.

برد آب ينال من شفاهي، فترتعش، مشاوير بيروت وقناديلها، نسمة الجنوب وتوابل الحكايات وشم في وريدي، ونشوة تلامس حدّ البقاء، ورحلة على أذرع السرمد.

 أنت والأرز صنوان والقميص المطعّم بالزبرجد.

أرضعوا أطفالها علقماً وأفسنتينا هل أنا هو؟ مسرحية الموت، كلّ منا له دور فيها. هل أنا القاتل أم أنا الضحيّة؟ الشهود أشلاء بيروت الحية، وهي الضحيّة. لقد خرجت يا بيروت عن نصّ المسرحيّة الهزليّة التي كتبها قلم تحرّش بطهرك، وأرادها ألّا تكون! وإن مضى درويش، ولم تر عيناه المجزرة فروحه ارتعشت، وهو يلملم أشلاء حبيبته. رحل درويش تاركاً بحر بيروت وحيداً، لم يعد وحيداً، بل امتلأ من رفات العذارى. رحل درويش وأسلم الحمام لميناء بيروت، يرثي الأطفال للأجيال القادمة، مضى درويش ولم يشهد المجزرة، تبكي عيناه، وترتعش عظامه في المقبرة. من حروف اللازوردِ ومن الشفق حاكك درويش حكايات بيروت وقصة الخلود، ورمى قلاع سفينته، وأبحر يرسم خارطة وطن متمرّد على الطغيان.  مضى ليموت أكثر، ويكتب ترنيمة شعوب مقهورة. بيروت تفاحة البحر، بيروت درة الشرق، بيروت الأغنية. ما الغد يا درويش سوى إعصار في قلب المحبرة. هل ما زال هناك وقت للغد، الوجع تغريدة في تغريبة الكلام، تأخرت عروس المدائن عن موعدها، كانت تقشط ملح الغدر عن ثوب عرسها، وصبغ الموت شفتيها بأحمر الألوان، لم تكن بيروت حباً عابراً، لذا سبقت خطى العروس خطاها نحو غد لا يُنسى.


فردوس مشتعل في أتون البحر، نهشوا تفاحك يا بيروت، ونتفوا ريش أطفالك، شبان تنادي أبي اخرج من البحر والتقطني، جبال تنوح ثكلى على من علقوا على صلبان أرزها، غزالة تستحم بدمائها، وريش دوريّ يشحذ نفناف الغيم، يغسل صلصال شوارعها. شعبك ميناء اجتمع العالم ، أوقدوا عظام شعبك في مواقدهم، شووا قمحك على صدور العذارى، وشربوا نخب ذلهم من وريد شبانك، وهزوا أكتافهم نافضين عار يهوذا، سكروا من دمائك قائلين: آه يا بيروت، خمرة الشرق أنت، نريد من دمك الاستزادة، أقول : مكانس بيروت أشرف من كباركم، ونعال أطفالها أشرف من رقابكم المتخمة فساداً، دمنا عليكم، لقد اعتادت الموت المتكرر دون موت، ستقوم كما اعتادت، وإن لم تنصفها  الأرض فهناك سماء وعدالة.

يوم سأكون طائر الفينيق، وبإصبع من نار أكتب الحرية، ستلقى الجيوش الغازية مصرعها، أرقص على جمرهم، وأتربع على عرش الريح، سأرفع راية الأطفال الذين قضوا ، والشباب الذين اعتلوا الغيم مع أحلامهم، والعرائس اللواتي حاك البحر أثوابهنّ، أكسر مرايا الريح، أتصوّف في هياكل بيروت مفعمة بالمحبّة، في يميني أكاليل غار.

  من لي غير بيروت عنها ابتعدوا، لا تمسوا روحها، ملكتها قلبي، وأنا طوع رضاها، مجبولة من صلصال الأماني وأحلام الشباب ورؤى الشيوخ ونبض العين ونخاع عظامي. لن تفنى بيروت، من تحت رماد الوجع تمطر عطراً، أواري في صدرها حزني، وعلى ذراعيها أنام، بيروت خبز التنور والزعتر، بيروت الغار والزيتون والشربين، بيروت رائحة العشق في المقاهي، وضحكات الأطفال، وأغاني الموج، سيمرّ المرّ.


مستحيل أن يكون ردّ الجميل هكذا، هذه الأرض والشوارع التي حملتنا، وشهدت فرح الطفولة وأحزانها، والمقاهي سمعت قصص العاشقين، والبحر أخذ مع الموج أسرارنا، مستحيل أن يصبح مرتعاً للنزوات البشريّة تعيث الفساد والقتل والدمار فينا، جسد بيروت جسدنا، بيروت غصن زيتون حملتها من ضيعتي، وجديلة صنوبر نامت على كتفي. بيروت لم تخذلنا يوماً، نحن من خذلنا بيروت، نحن من نفينا بيروت، ونحن من أحرقنا بيروت، تركنا الوحوش تنهش لحمها، وجعلنا من عظام أبنائها عروشاً للغزاة والمتسلطين والظالمين، طردنا النوارس من على شواطئها، وغرسنا الموت في كلّ ميناء. نحن من كسرنا ظهر بيروت، أحرقناها حين أهملنا مشاعرها، وحين نسينا تاريخها، وحين علقنا على جدار غيرنا أملنا، ولم نضع ثقتنا فيها، خذلنا بيروت، واستبدلنا برائحة العنبر الدم. لكن ستقوم بيروت، سيعلم أولادها أنّها الكتف التي نستند إليها، نبني عليها أحلامنا وأنها الصدر منه يخرج النور، والقلب الذي يحمل المحبّة، والمحبّة لا تموت.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).